الزمان السبت ٢٩ يناير ٢٠١١، مساءً، المكان وسط مدينة طنطا، في هذا التوقيت كانت الأجواء في الشوارع المصرية متوترة للغاية، حالة من الرعب والقلق تنتاب الشعب، رؤية غير واضحة للمستقبل وحالة من التصعيد الشعبي ضد النظام مطالبة بالتغيير، مع فرض حظر التجوال في الشوارع العمومية وانتشار للدبابات وأفراد الجيش في محاولة للسيطرة على الموقف والقيام بمهمة الأمن بعد أن أصبحت أقسام الشرطة شبه خالية من الضباط والأفراد، خاوية على عروشها، أما الأهالي فقد شاركوا في تكوين اللجان الشعبية لحفظ وحماية الممتلكات العامة والخاصة بعد أن سادت الفوضى البلاد واستغلال الخارجين عن القانون خلو الشوارع في أعمال السلب والنهب، يالها من أوقات عصيبة تمضي، الكل مترقب ينتظر القادم الذي هو في علم الله وحده، لكن ماذا يفعلون؟ ليس في وسعهم سوى الدعاء بأن يحفظ الله البلاد والعباد.
كنت بصحبة الزميل إسلام الخياط في هذا التوقيت، نتابع ونرصد الأجواء صحفياً، قادنا القدر وقتها أن نسير بسيارة الزميل "الخياط" المتواضعة في الشوارع لمتابعة الأوضاع والتطورات، حتى أن هاتف الزميل إسلام رن فرد على المتصل الذي أخبره أن هناك هجوماً من قبل بلطجية في إحدى المناطق القريبة من سجن طنطا العمومي، فطار بالسيارة وكنت مصاحباً له صوب المكان، وصلنا بعد بضع دقائق فلم نجد شيئاً، توقفنا قليلاً نلتقط أنفاسنا وكنا في حاجة ملحة لشرب الماء من هول الأحداث المتلاحقة وشدتها، سيرنا بالسيارة في محيط المكان بحثاً عن محل أو كشك على الأقل مفتوح لكن المحلات جميعها كانت مغلقة بفعل الأحداث والكل في بيوته فيما عدا نحن واللجان الشعبية ومن خلفنا رجال القوات المسلحة.
تحركنا بالسيارة نسير في الشوارع الخالية من المارة، وسط جو من التوتر والقلق نسير بسرعة شديدة، وبحذر شديد نترقب الموقف حتى وصلنا إلى ميدان الساعة بإعجوبة ، فجأة ظهرت مجموعة من الأشخاص أمامنا، للوهلة الأولى المنظر يوحي أننا وقعنا في فخ وكمين نصبه لنا البلطجية للاستيلاء على السيارة، وسرعان ما اقتربوا من السيارة ومحاصرتها محاولين استيقافها بالقوة، وسارع بعضهم بمحاولة إنزالنا منها بالقوة، فترسخ في ذهننا أنهم مجموعة بلطجية لا غير ذلك، وأننا سنكون أول الضحايا لا محالة، في تلك اللحظات الفارقة، استجمع إسلام كل قوته وشجاعته وفي حركة إكروباتية سريعة تمكن من الفرار منهم بإعجوبة والدخول في شارع جانبي بسرعة شديدة، وكإننا في مشهد أكشن نعيشه في الواقع؛ حاولت أن أستجمع قوتي أنا أيضاً بعد أن شعرت بجميع مفاصل جسدي وقد أصيبت بالوهن، ألقيت نظرة خلفي لأجد حشد من الجماهير الغفيرة تجري خلفنا يحملون الأسلحة ويقذفون السيارة بزجاجات المياه الغازية الفارغة، ألهمنا تفكيرنا في تلك اللحظة أن نترك السيارة بسرعة وننفد بعمرنا من هذا الهجوم، فأكملنا الطريق جريًا إلى أن ابتعدنا عنهم، واختبأنا في مدخل إحدى العمارات السكنية نحاول التقاط أنفاسنا وكأننا في كابوس مفزع، لم يكن أمامنا سوى الانتظار حتى يأتي الفرج وكل ما يشغل تفكيرنا السيارة التي تركناها كيف أصبح مصيرها، الوقت يمر بصعوبة، فجأة يرن هاتف إسلام ويرد فيسأله المتصل بصوت أجش مرتفع قائلاً الأستاذ إسلام معايا ؟
فيرد إسلام أيوة مين معايا؟
فيجيبه المتصل أنا أحمد اللي شغال في محل الملابس اللي في شارع البورصة، فاكرني؟
رد إسلام أيوة أيوة فاكرك خير في حاجة؟
المتصل: هو انت مش عندك عربية رقمها كذا ولونها كذا؟
فيجيبه إسلام بكل شغف أيوة فعلاً.
المتصل: ماتقلقش ياباشا العربية واقفة واحنا مأمنينها تعرف تيجي حالا؟
إسلام: حالاً .. أنهى المكالمة وعدنا سريعاً إلى حيث تركناها لنجدها فارغة من كل شيء، عبارة عن هيكل فقط، بعد أن تم الاستيلاء على كل شيء فيها حتى الاستبن وجهاز اللاب توب، وتقف حولها المجموعة التي كانت تطاردنا منذ وقت قليل، ووسطهم الشخص المتصل الذي تقدم نحونا واعتذر كثيراً لما حدث مبرراً تصرفهم لسوء الفهم نظراً لاعتقادهم أن السيارة مسروقة ويحاول سارقها الهرب فطاردوه دون أن يعرفوا هوية قائدها الحقيقي.
هنا تنفسنا الصعداء، وقلت في بالي، لولا ظهور هذا الشخص في الوقت المناسب لكنا قد أصبحنا في عِداد شهداء العمل الصحفي، وأصبحنا مجرد ذكرى عابرة تمضي كل عام يتذكرنا القليل ثم سرعان ما ينشغلون في حياتهم.
عدت بعدها إلى المنزل شريدًا يعتصرني الألم النفسي، دخلت إلى غرفتي دون أن أُكلم أحد، خلعت كافة ملابسي المملؤة ببقايا الزجاج المنثور جراء حُطام واجهة السيارة، وركعت لله ساجداً حامداً على أني مازلت على قيد الحياة، وظللت في غرفتي شاردًا لا أريد التحدث مع أحد، أفكر فيما حدث وكأني كنت في كابوس مفزع واستيقظت منه في الوقت المناسب.
لعلها ذكرى عصيبة لكنها بمثابة درس تعلمناه أن الحياة ما هي إلا مجموعة لحظات نمر بها لتُكَوِن مجموعة من الأعمال إما صالحة أو طالحة.
اللهم أحسن خاتمتنا.