في الطريق إلى المدينة حدثت أحداث تُظهر الرعاية الربانية لمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتي من أهمها:
ـ أن سراقة بن مالك ظل يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه؛ لينال جائزة قريش حتى عثر عليهما، ولما دنا منهما، قال: فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاقترعت بها، أَضُرُّهُمْ أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، حتى إذا دنوت وسمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسي في الأرض، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فاقترعت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن الله سيظهر أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فلحقتهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا.
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بخيمة أم معبد، فسألها شراباً؟ فقالت: والله ما عندنا شيء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة في الخيمة خَلَّفَها الجهد عن الغنم، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حَلَبًا فاحلبها، فمسح ضرعها، وسمى الله ودعا، فدر الضِرع باللبن، ودعا بإناء، فحلب فيه، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقي أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيا، حتى ملأ الإناء، وتركه وارتحلوا، فلما جاء زوجها أبو معبد ورأى اللبن تعجب، وقال: من أين لك هذا؟ والشاة هزيلة، قالت: قد مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بأحسن الأوصاف وأجمل النعوت، فقال: والله هذا صاحب قريش، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
وأقام صلى الله عليه وسلم بقباء بضع ليالٍ، وأقام فيها مسجداً أسس على التقوى من أول يوم، وصلّى فيه بمن معه من الأنصار والمهاجرين، وأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فنزل وصلّاها، وهذه أول جمعة وأول خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم ـ
ثم خرج الأنصار جميعا يستقبلونه حتى وصل صلى الله عليه وسلم المدينة وقد أحاطوا به من كل اتجاه، وأحاط بقلوبهم الفرح والسرور، و هم ينشدون ويرددون:
طلع البدر علينا … من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا … جئت بالأمر المطاع
وقد وصف أنس بن مالك هذا الشعور المدني آنذاك بقوله: لما كان اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم، أظلم من المدينة كل شيء.
وبهذه الهجرة قد تمّت للنبي صلى الله عليه وسلم سنّة إخوانه من الأنبياء، فما من نبي إلّا وقد هاجر من بلد مولده، كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؛ ليكونوا مثالا وأسوة في الثبات والصبر على الحق وفي سبيل الحق.