استمرارًا لمسلسل الانحدار الأخلاقي الذي يضرب المجتمع في أعماقه وبين زحام الصراع من أجل لقمة العيش ولهاث البشر خلف ستر اليوم وغدٍ لا يأتي نعيش عصرًا غريبًا تتبدل فيه الموازين وتنقلب فيه القيم رأسًا على عقب وتتحطم كل الثوابت وتتبدل كل الأفكار في لحظة واحدة يُدفن الشرفاء تحت أنقاض الجدران وتصعد إلى الشاشات والقلوب شخصيات بلا تاريخ ولا خُلق فقط لأنها تعرف من أين تؤكل الكاميرا ومن أين يُنتزع ما يُسمي بـ التريند.
واقعتان متزامنتان ظهرتا في الأيام القليلة الماضية تلخصان لنا حجم الفجوة بين ما يستحق أن يُسلط عليه الضوء وما يتصدر مشهدنا العام رغم تفاهته وخطورته على الذوق العام والوعي الجمعي ففي واقعة اسميتها فاجعة شبرا حين انهار منزل على الكادحين في حي الساحل بشبرا مصر سقط بيت قديم على رؤوس مجموعة من شباب بسطاء يعملون "سريحة" على عربيات كسكسي يخرجون من بيوتهم قبل الشروق ويمضون يومهم بين عرق وتعب ونداء المارة من أجل مبلغ لا يتجاوز الـ 150 أو الـ 200 جنيه فقط شباب غرباء عن المدينة نزحوا من قراهم وأريافهم وصعيدهم حاملين آمالًا صغيرة: ربما شقة أو علاج أو جهاز لبنت أو حتي زواج مؤجل جاءوا باحثين عن مستقبل لا نهاية ولكن أحدهم لم يحتمل جسده اصطدام الجدار به وسقوطه فوقه فمات في الحال والباقون سقطوا بين إصابات وكسور ولا أحد يسأل عنهم الآن بل ولوهلة اهتم الإعلام وذهبت الكاميرات وكتبت بعض المواقع عناوين حزينة، وبثّت القنوات ومواقع السوشيال لقطات لدموع متعبة تحدث الناس عن معاناة هؤلاء ثم صمت كل شيء وبلا عودة للحديث صمت الجميع وعم الحزن وتصاعدت الأحزان فهكذا أصبح الموت بلا قيمة والشقاء بلا صدى لم تطلق حملة تبرعات لم تصرخ العناوين لم تُكتب مقالات طويلة. فقط "حصل اللي حصل" ثم انتقل الناس لفيديو آخر وخبر جديد.
وعلى الجانب الآخر وفي التوقيت نفسه طفت على السطح واقعة أخرى، بطلتها فتاة طالما شبها الجميع ووصفوها بأبشع الالفاظ التي تستحقها عن جدارة لا يعرف لها أحد موهبة تُذكر ولا إنجاز يُحكي سوى أنها ظهرت قبل أشهر في "فيلم جنسي مُسرّب" فتح أمامها أبواب الشهرة على مصراعيها بعدها أصبحت ضيفة دائمة على مواقع التواصل، ومادة جاهزة للترند والفيديو الجديد لها لم يكن أقل فظاعة رجل في منتصف العمر يمسكها من شعرها يصفعها بقسوة بينما هي ترد بانكسار فاضح وهي ترتدي ما لا يليق لا شكلًا ولا مضمونًا الفيديو اجتاح منصات الخراب الإجتماعي المسماه السوشيال ميديا كالإعصار وتصدر قوائم البحث تناقلته الصفحات كما يتناقلون لحظة سقوط قنبلة وتحوّل الضرب إلى "فضيحة" وتحولت الفضيحة إلى رأي عام ولكل أسف تسابقت المواقع لنشر تفاصيل الواقعة والإجابة عن الأسئلة التي شغلت الرأي العام بلا أدني فائدة هل هو زوجها؟ هل الفيديو قديم؟ هل تعرضت للابتزاز؟ ومئات التحليلات التي لا تُسمن ولا تغني من وعي ولا معلومة
نعم مـ.ـوت بلا عنوان.. وعـ.ـري له آلاف المشاهدين
فقارن بين المشهدين تجد نفسك مذهولًا شباب يموتون تحت أنقاض بيت آيل للسقوط في منطقة شعبية قديمة متهالكة دون أن يعبأ بهم أحد وفيديو مُخزٍ تصدر الشاشات والاهتمام لأن بطلته تعرف كيف "تصنع ترندًا" وكيف "تبيع" جسدها وصورتها وألمها لمن يدفع أو يضغط زر الإعجاب فأين نحن من المروءة؟ أين المجتمع من الحياء؟ كيف أصبح الكدّ الشريف لا يثير اهتمام الإعلام بينما التافه المنحل مُصدر التدني الاخلاقي والإنحدار القيمي يُستدعى كضيف شرف في برامج النميمة والتحليل؟
وبكل أسف الإعلام ليس بريئًا بل ولكل أسف ايضًا لم يعد منصة لرفع صوت الضعفاء بل صار "سوقًا" لترويج الرائج و"مولًا" كبيرًا لمن يدفع أكثر أو يثير فضولًا أكثر الكاميرات صارت تنجذب تلقائيًا إلى قاع الابتذال أما القيم النبيلة والصور المشرقة فتُترك في الظل فما حدث في شبرا ليس مجرد حادث مأساوي بل مرآة مكسورة لمجتمع قرر أن يُكرم من يفضح نفسه ويغض البصر عن من يموت شريفًا وما حدث من فتاة السوشيال هذه وغيرها ليس سوى عرض جديد في مسرح سُحبت منه الأخلاق واستُبدلت بالترند.
عزيزي القارئ ما يحدث في مجتمعاتنا ليس فقط أزمة اقتصادية أو سياسية بل هو انهيار أخلاقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى هذه هي الردة الأخلاقية التي أصرخ كل حين لتجاربها معًا لعل هذه الصرخات تكون نجاة لي ولحضراتكم من عذاب يوم القيامة بو يسألنا الله عز وجل ام لم نقاوم ونحارب هذا الفساد فحين يصبح "الضرب الفاضح" أكثر تأثيرًا من "الموت الشريف" وحين تتصدر "بطلة الإباحية" صفحاتنا بدلًا من شهداء لقمة العيش فاعلم أننا بحاجة إلى وقفة كبرى مع أنفسنا، ومع إعلامنا ومع قيمنا التي تُسحق كل يوم تحت أقدام التفاهة.
وها هي من جديد بإختلاف وتغير المفردات والأشخاص والمعطيات تدني أخلاقي جديد وردة أخلاقية تُصيبنا والفاعل معلوم ورد الفعل منعدم نحو من يستحق وصادم نحو اتفه الامور.