على مدار فترة طويلة من الزمن وجدت أن العلوم المختلفة في حالة عزلة، وترسخ ذلك في وجداننا منذ الصغر، فهذه حصة تاريخ وهذه حصة لغة عربية، وتشعر أن المدرس والمادة العلمية تشعرك وكأنك لابد أن تقسم عقلك تشريحيا لأقسام وحصص اليوم الدراسية، حالة من الانفصال التام بن العلوم والمجالات المختلفة.
هذا بالطبع يعتبر امتداد لمسيرة التعليم النمطي الذي نشأنا عليه جميعا، هذا استمرار لمسلسل التحفيظ الذي جبلنا عليه، فأنا أحيانً أسمع المدرسات في الحضانات يعلموا الصغار ألف أرنب وباء بطة، وكأن اللغة العربية لا تحتوي على أسماء تبدأ بحرف الألف إلا الأرنب، ربما كان ذلك مقصود او غير مقصود لتسطيح عقول أبنائنا، في الواقع ليس هذا هو موضوع المقال الذي بين يديكم.
أنا أتحدث في هذا المقال عن حالة الإنفصال التعسفي او قل حالة الانعزال بين مجالات العلم المختلفة، ولا أدعي أن أكون أول من تحدث عن هذا الموضوع، فقد تحدث فلاسفة العلم عما يسمى بتكامل العلوم، عندما وقفت عديد من الأقلام المتعقلة تطالب بأن نزيل تلك الجدر التي بين مجالات العلم المختلفة، لماذا فصلنا في تدريس طلابنا بين التاريخ والجغرافيا، وبين الكيمياء واللغة العربية، لماذا نقسم هذا التقسيم الذي نراه في مدارسنا، لماذا نقسم بين العلمي والأدبي، وعلى مدار فترة طويلة لم نجد مساحة مشتركة تجمع شتات علوم هي في الأساس متصاحبة، متعاونة، متآزرة.
إني لأشعر بعجب شديد في أن يمتد ذلك إلى مرحلة التعليم الجامعي، ففي جامعاتنا المصرية نقول هذه كليات علمية وتلك أدبية، بل أن بعض الجامعات تخصص جانب من الجامعة للكليات العملية وجانب آخر بعيد عنه مخصص للكليات الأدبية، وكأن الأول يخشى من أن الثاني يصيبه بعدوى او جزام او شيء سيء.
أحيانً تحظى الكليات العملية في بعض الجامعات بمخصصات مالية أكثر بكثير من الكليات الأدبية، ربما تحصل أيضاً الكليات العملية على تجهيزات، فرص تدريبية، منح وبعثات أكثر بكثير مما يوجه لصالح الكليات النظرية. بل وصارت تلك النظرة الدونية للكليات النظرية سبة او لعنة لا تفارقها.
وفي الواقع لا أتحدث هنا عن التمييز العنصري ضد المجالات النظرية، ولن أتحدث عن الصورة النمطية التي تجعل من خريج كلياتنا النظرية في وضع أقل من خريجي الكليات العملية.
أنا، وعلى العكس من ذلك، أرى أن هناك الكثير من القواسم المشتركة التي بين العلوم النظرية والتطبيقية، أرى أن هناك خطوط إتصال قوية بين أصحاب المعسكرين، أتصور أن ثمة روابط قوية بين المجالات النظرية والعملية، فمن يستطيع أن يفهم الجوانب النفسية للإنسان دون أن يدرس الجوانب الفسيولوجية الخاصة بالجسد، من يستطيع أن يفهم تأثير الكمبيوتر على حياتنا دون أن يدرك ويفهم النظريات الاجتماعية، من يستطيع أن يدرس تاريخ أمة دون أن يدرس كيميائها وفيزيائها.
في الواقع ظلت وزارة التعليم العالي في مصر تكرس للفصل بين النظري والعملي، سواء بالفصل بين الكليات والأقسام العلمية، سواء بالفصل بين المؤتمرات العلمية، برفض تطبيق البحوث الجماعية التي تجمع بين باحثين من تخصصات علمية مختلفة. وما الذي يدعو إلى التفاؤل المحفوف بالحذر أن بعض الجامعات المصرية اتجهت نحو التكامل العلمي – وإن كان بخطى – بطيئة للغاية.
فأنا أعتقد أن ذلك يتطلب أن ينشء الطفل على التكامل العلمي منذ الصغر، وأن يتم تغيير نظم التدريس في المدارس حتى تصبح قائمة على هذا التكامل، وينعكس ذلك في المقررات التدريسية، وأيضاً في الثانوية العامة.
وعلى صعيد آخر، ينبغي للجامعة أن تتبنى تكامل العلوم وأن يسمح للطالب أن يدرس مجال نظري مع مجال عملي، او يحصل على فصول دراسية في المجالات التي يرى أنها ستفيد دراسته بغض النظر عن كونها نظرية او عملية، ينبغي أن نسمح في الدراسات العليا للطلاب بأن يسجلوا موضوعاتهم البحثية في مجالات نظرية متكاملة مع المجالات العملية، علينا أن نسمح لفرق بحثية بأن تتشكل في جامعاتنا المصرية متكونة من باحثين في مجالات نظرية وباحثين في مجالات عملية، علينا أن نشجع أساتذة الجامعات أن يتعاونوا ويتكاملوا بغض النظر عن تخصصاتهم بأن تزيد درجة البحوث المتكاملة عن الفردية.
نستلهم تلك الخطى من الجامعات الأجنبية التي تقدم دبلومات وبرامج في موضوعات تجمع بين الجانب النظري والعملي، فلا يوجد في مصر برنامج مثل (التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر) برنامج (الإعلام الطبي) برنامج (العلاج بالموسيقى) وغيرها من البرامج التكاملية. ولحل مشكلة التباعد العلمي، أقترح نظرية جديدة نسميها (ديجيمونيا)، ومعناها أن الطالب يدرس تخصص رقمي (ديجيتل) وتخصص إنساني (هيومان)، كأن يدرس الطالب علم نفس، كمياء، كمبيوتر، ومن ثم تنصهر تلك العلوم في ذهن شخص واحد، وبالتالي يكون إنتاجه العلمي أفضل وقدرته على فهم الحياة أعمق.
إبراهيم عمارة
مدرس الصحافة
كلية الآداب جامعة طنطا