الحج دورة إيمانية روحية ودورة تربوية عملية لزيادة الإيمان وترسيخ اليقين؛ لأنها تُجسّد في الذهن دورةً كاملةً لكفاح الخليل إبراهيم عليه السلام وإيمانه وتضحيته وإخلاصه لله تعالى, وليس الحج مجرد قراءة تاريخية بل مُشاهدة للمعالم الأثرية, وزيارة للمشاعر التي عايشها الخليل, وسير في المشاهد التي شهدها, مما له الأثر الأعمق في تربية النفس وتزكيتها والاقتداء به عليه السلام, كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}[الممتحنة: 4], ولهذا فُرض الحج على المستطيع مرة واحدة في العُمر؛ لما في الحج من شِحنةٍ إيمانية وشُعلةٍ روحية تكفي المسلم حتى الممات.
وهذه الإيمانيات تظهر من خلال دوام استجابة الأسرة الخليلة عليها السلام لأمر ربهم عز وجل, في كثير من المواقف, وأهمها:
ـ ذهاب الخليل بأم إسماعيل وابنها إلى صحراء جرداء في مكة وترك معهم جراب تمر وسقاء ماء, ثم انصرف قافلاً وراجعاً فتبعته أم إسماعيل وهي تقول له: إلى من تتركنا في هذا المكان الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فجعل لا يلتفت إليها, فسألته آالله أمرك بهذا, قال: نعم, قالت: إذا لن يضيعنا, فأيقنت بإيمانها أن الله لن يضيع أولياءه وأصفيائه, ثم نفد الزاد وعطش الصبي عطشاً شديداً حتى جعل يتلبط ويموت أمام أمه من شده العطش, فجعلت تبحث عن الماء فذهبت إلى الصفا, فلم تجد شيئاً, فرجعت إلى المروة فلم تجد شيئا, فما أيست ولا قنطت وإنما ذهبت ورجعت سبع مرات وسبعة أشواط بالله, لإيمانها بالله ويقينها بأن فرج الله قريب.
فكان ربها عند حسن ظنها, وجاء الفرج من عند الله, فضرب جبريل عليه السلام الأرض فنبع ماء زمزم المبارك من تحت قدم إسماعيل, ولقد خلد الله تعالى هذا السعي إلى يوم القيامة وجعله ركنا من أركان الحج؛ ليتربى الحجيج على السعي والأخذ بالأسباب, والذي هو من تمام التوكل على الله.
ـ رأى الخليل عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه فهَمَّ بذلك وما تردد, وعرض هذا الأمر وذلك البلاء المبين على ابنه وقال:{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}[الصافات: 102], فانظر الى جواب اسماعيل وانظر إلى إيمانه الذي تشربه من أمه وأبيه, فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: 102].
ـ استجابة الخليل عليه السلام السريعة لأمر ربه برفع قواعد البيت, وعاونه على هذا الأمر الإلهي ابنه إسماعيل, وفي بنائهما للبيت يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: 127], فرفعا قواعد البيت وهما يدعوان الله بالقبول؛ لأن الأهم من العمل هو قبول العمل, قال بعض العلماء: لأن أعلم أن الله قد قبل مني سجدة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ ومدح الله تعالى المقبولين في قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27].