يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ﴾[الضحى: 11], من المعاني الراقية في هذه الآية أن قوله تعالى {فَحَدِّثۡ} من التَّحْديث والتجديد, أي جَدِّد النعمة وطورها واعمل لها (Update)؛ لتستمتع بالنعمة أرقى الاستمتاع؛ لأن النعمة إذا لم تُحَدَّث (هتهنج), وتكون مُملة وثقيلة, وبالتالي لا يستطيع الإنسان شكرها ولا الاحتفاظ بها, فتطير النعمة وتزول من الإنسان, فاذا فقد الإنسان النعمة سرعان ما يندم على زوالها, وحينئذٍ يدرك قيمتها.
فالطبيب إذا لم يُحَدِّث عيادته ويطورها أعرض عنه المرضى, والتاجر إذا لم يُحَدِّث بضاعته و(مودلاته) (هيطفش) الزبائن, والوالد إذا لم يطور علاقته بأبنائه أعرضوا عنه, والزوجان إذا لم يطورا علاقتهما أعرض كل منهما عن الآخر.
الفرزدق الشاعر المعروف كانت له زوجة أصيلة وجميلة اسمها (نُوَار), ولكن لم يُحَدِّث علاقته بها, حتى ملَّ منها وزَهِد فيها وطلقها, ثم سرعان ما ندم على فراقها, وأنشد متندماً:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا غَدَتْ مِنيِّ مُطَلَّقَةً نُوَارُ
وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِهِ الضِرارُ
وَكُنتُ كَفاقِئٍ عَينَيهِ عَمداً فَأَصبَحَ ما يُضِيءُ لَهُ النَهارُ
وَلا يُوفِي بِحُبِّ نَوارَ عِندي وَلا كَلَفي بِها إِلّا اِنتِحارُ
وكثيرٌ من العلاقات الأسرية الروتينيه (hangat) وأصابها الفتور والملل, فلا لون لها ولا طعم, فلا هدية ولا رسالة ولا كلمة طيبة ولا دعوة ولا مزاح ولا فسحة ولا تجديد, وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرا ما يُجَدِّدُ روح المودة والرحمة مع زوجاته, حتى أن أجواء السفر القاسية لم تمنعه من أجواء الدُّعابة الأسرية اللطيفة, حيث قال لعائشة يوما في بعض أسفاره: "تعالِي أُسابقُك", قالت: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فسكت عني، حتى إذا حَمَلْتُ اللحم وَبَدُنْتُ ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: "تقدموا" فتقدموا، ثم قال: "تعالي أُسابقُك", فَسَابَقْتُهُ ، فَسَبَقَنِي ، فجعل يضحك، وهو يقول: "هذه بتلك", فما أسعدها به! وما أسعده بها! وما أسعد الحياة بالتحديث والتجديد!
ومما يُحَدِّثُ النعمة ويُجَدِّدُ بريقها النظر إلى من فقد مثلَها, انظر أيها البصير إلى فاقد البصر, انظر أيها الصحيح إلى طريح الفراش, وإلى فاقد الأطراف أو اليتامى والمساكين, انظري أيتها الزوجة إلى من هو دون زوجكِ وأولادكِ, وانظر أيها الزوج إلى من هي دون زوجتكَ وأولادكَ حتى تستشعر فضل الله عليك.
وكان أبو الحسن الشاذلي يعلم تلاميذه هذه الإحساس الراقي بالنعم, حيث قال له أحد تلاميذته: أنا لا أشرب الماء البارد, فقال له أبو الحسن: لِمَ؟ قال: أحارب نفسي؛ فهي تشتهي شُرب البارد, فقال له: "اشرب الماءَ الباردَ, فإنك إن شربته بارداً فحمدت الله, انتزعت الحمد من أعماق قلبك"؛ لأن الشكر في الحقيقة هو التعمق في الاستمتاع بتمامها وكمالها, لا في الوقوف عند أصلها وأساسها.
فشتان بين مَن فقد الإحساس بكثرة المَساس, ويتعامل مع النعمة بشعور بارد, وحمدٍ بارد من طرف لسانه, وبين من يُحَدِّث النعمة ويطورها, ويُحْيها من جديد, فإذا قال حمد الله عليها خرج الحمد من أعماق قلبه.