اكتشف العلماء أن الذرات داخل السوائل ليست كلها في حالة حركة دائمة، إذ تبين أن بعض الذرات تبقى ساكنة حتى عند درجات حرارة مرتفعة جدا، ولهذه الذرات الساكنة تأثير كبير في كيفية تحول السائل إلى مادة صلبة، بما في ذلك تكوين حالة غير مألوفة من المادة تعرف باسم السائل فائق التبريد المحصور ذريا.
تلعب عملية التصلب دورا محوريا في العديد من الظواهر الطبيعية مثل تكون المعادن وتشكل الجليد وطي الألياف البروتينية، كما تعد أساسية في عدد كبير من التقنيات من الصناعات الدوائية إلى الصناعات المعدنية بما في ذلك الطيران والبناء والإلكترونيات.
ولفهم كيفية تشكل المواد الصلبة، استخدم علماء من جامعة نوتنجهام وجامعة أولم في ألمانيا المجهر الإلكتروني النافذ لمراقبة قطرات نانوية من المعادن المنصهرة أثناء تصلبها.
قال البروفيسور أندريه خلوبيستوف، قائد الفريق البحثي: "عندما نفكر في المادة غالبا ما نتصور ثلاث حالات فقط: الغاز والسائل والصلب. وبينما يسهل نسبيا فهم سلوك الذرات في الغازات والمواد الصلبة، تظل السوائل أكثر غموضا".
داخل السوائل تتحرك الذرات بطريقة معقدة ومزدحمة، تشبه أشخاصا يتزاحمون في شارع مزدحم، فهي تمر بسرعة بجانب بعضها البعض مع استمرار تفاعلها. وتصبح دراسة هذه الحركة أكثر صعوبة خلال اللحظة الحاسمة التي يبدأ فيها السائل بالتحول إلى صلب، وهي المرحلة التي تحدد البنية النهائية للمادة والعديد من خصائصها الوظيفية.
قال الدكتور كريستوفر لايست، الذي أجرى تجارب المجهر الإلكتروني في أولم باستخدام جهاز SALVE منخفض الجهد: "بدأنا بإذابة جسيمات نانوية معدنية، مثل البلاتين والذهب والبلاديوم موضوعة على دعامة رقيقة جدا من الجرافين؛ استخدمنا الجرافين كأنه موقد لتسخين الجسيمات، ومع انصهارها بدأت الذرات تتحرك بسرعة كما هو متوقع. لكن المدهش أننا وجدنا أن بعض الذرات بقيت ثابتة".
أظهرت تحليلات إضافية أن هذه الذرات الثابتة ترتبط بقوة بسطح الدعامة عند نقاط معينة تعرف بالعيوب النقطية، وأن هذا الارتباط القوي يستمر حتى عند درجات حرارة عالية جدا؛ ومن خلال تركيز حزمة الإلكترونات على مناطق محددة، تمكن الفريق من إنشاء مزيد من هذه العيوب وبالتالي التحكم في عدد الذرات التي تبقى مثبتة داخل السائل.
قالت البروفيسورة أوته كايزر، مؤسسة مركز SALVE في جامعة أولم: "فاجأتنا تجاربنا لأننا رصدنا مباشرة ازدواجية الموجة والجسيم للإلكترونات في حزمة المجهر؛ فنحن نستخدم الإلكترونات كموجات لرؤية المادة، لكنها في الوقت نفسه تتصرف كجسيمات تنقل دفعات منفصلة من الزخم، يمكنها إما تحريك الذرات أو تثبيتها عند حافة معدن منصهر، وقد سمح لنا هذا الرصد الاستثنائي باكتشاف حالة جديدة من المادة."
وكان الفريق نفسه قد نجح سابقا في تصوير تفاعلات كيميائية على مستوى الجزيئات المفردة، بما في ذلك أول تسجيل مباشر لكسر رابطة كيميائية وإعادة تكوينها في الزمن الحقيقي، مما يتيح مراقبة الكيمياء على مستوى الذرة الواحدة.
في هذه الدراسة الجديدة، اكتشف العلماء أن الذرات الثابتة تؤدي دورا حاسما في توجيه كيفية تحول السائل إلى صلب. فعندما يكون عدد الذرات المثبتة قليلا، يمكن للبلورة أن تنمو داخل السائل حتى يتصلب الجسيم النانوي بالكامل؛ أما عندما يكون عدد الذرات المثبتة كبيرا، فإنها تعيق هذا النمو وتمنع تشكل البلورة من الأساس.
قال البروفيسور خلوبيستوف: "يصبح التأثير لافتا بشكل خاص عندما تشكل الذرات الثابتة حلقة تحيط بالسائل. فعند احتجاز السائل داخل هذا السور الذري، يمكنه أن يبقى في حالته السائلة عند درجات حرارة أقل بكثير من نقطة تجمده الطبيعية؛ وبالنسبة للبلاتين قد يصل ذلك إلى نحو 350 درجة مئوية، أي أكثر من ألف درجة أقل مما هو متوقع عادة".
وعندما تنخفض درجة الحرارة أكثر، يتحول السائل المحصور في النهاية إلى مادة صلبة، لكنه لا يتبلور بشكل منتظم، بل يصبح معدنا لا بلوريا يفتقر إلى البنية المنتظمة للبلورات؛ ويكون هذا المعدن غير البلوري غير مستقر للغاية، ولا يستمر وجوده إلا طالما بقي محصورا بالذرات الثابتة؛ وعند زوال هذا الحصر تنطلق التوترات المتراكمة ويعاد ترتيب الذرات لتعود إلى بنيتها البلورية المعتادة.
حتى الآن كان حصر الجسيمات على مقياس النانو مقتصرا على الفوتونات والإلكترونات، لكن هذه الدراسة تمثل أول دليل على إمكانية حصر الذرات نفسها بطريقة مماثلة.
وقال خلوبيستوف: "قد يمهد هذا الإنجاز لظهور شكل جديد من المادة يجمع بين خصائص الصلب والسائل في آن واحد."
ويقترح الباحثون أن التحكم الدقيق في مواقع الذرات المثبتة على الأسطح قد يسمح ببناء حواجز ذرية أكبر وأكثر تعقيدا.
وقد يؤدي هذا المستوى من التحكم في المعادن النادرة إلى استخدام أكثر كفاءة لها في تقنيات الطاقة النظيفة، بما في ذلك تحويل الطاقة وتخزينها.