أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لا تريد زيادة التوترات على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وأنها تسعى إلى حل دبلوماسي، إلا أن المتحدث باسمها ماثيو ميلر، قال في مؤتمر صحفي إن هجمات حزب الله من الحدود قد زادت بشكل كبير.
ما يدهش في الإدارة الأمريكية بصفة عامة هو عدم قدرتها على التفريق ما بين الأعراض والمرض، فتحاول علاج الأعراض دون أن تكون لها القدرة على الوصول إلى جوهر المرض. بمعنى أن الخارجية الأمريكية في تصريحاتها تلك لم أو ربما لا تريد أن تستوعب أن حزب الله لا يمثل نفسه كتيار أو كحركة مقاومة أو حتى كإيران، وإنما يمثل الوضع الراهن برمته، يمثل العرب والعالم الإسلامي ويتنامى الغضب يوما بعد يوم، ولن يكون هناك أي "حل دبلوماسي"، مما يتحدثون عنه في أروقة الخارجية الأمريكية، سوى بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
أما سعي وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بلقاءاته المكوكية مع المسؤولين الإسرائيليين لوقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الرهائن، فليس سوى مادة للاستهلاك الإعلامي بهدف تضليل المجتمع الأمريكي قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح حملة بايدن. إضافة طبعا لمحاولات خداع العالمين العربي والإسلامي وكسب مزيد من الوقت وإتاحة الفرصة للاحتلال الإسرائيلي لحل إحدى معضلاته وتحدياته الرئيسية وهي العنصر الديموغرافي بتنفيذ سيناريو إبادة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، والذي يستمر يوميا من خلال عمليات الاقتحام لمدن الضفة وانتهاج سياسة الحصار الاقتصادي وسرقة الأموال الفلسطينية، حتى باتت السلطة الفلسطينية عاجزة عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وأسر الشهداء والمعتقلين في السجون الإسرائيلية.
وهنا أود توضيح أنه وبرغم الخلاف بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس، إلا أن السلطة في رام الله دائما ما كانت ملتزمة بدفعها للرواتب في قطاع غزة. وبرغم سعي بلينكن للإفراج عن الرهائن، إلا أنه وبنفس الوقت ينسّق، بشكل مبطّن، مع المسؤولين الإسرائيليين كيفية تشديد العقوبات في قطاع غزة والضفة الغربية حتى تصبح الحياة هناك مستحيلة.
نعم، إنهم يريدون تهجير الشعب الفلسطيني كاملاً، ومخططهم الخبيث يسير في هذا الاتجاه، وعندما تعلن الإدارة الأمريكية من خلال خارجيتها عن انخراطها وتنسيقها اتصالات مع مصر وقطر وإسرائيل بشأن التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وحينما تعرب عن اعتقادها بأن وقف إطلاق النار في غزة سيسهم في خفض التصعيد على الحدود بين لبنان وإسرائيل، فإن كل تلك ليست سوى محاولات بائسة للخداع انكشفت بإعلان الخارجية الأمريكية نفسها عن "تواصل تصدير السلاح إلى إسرائيل"، و"عدم ارتباطه بالوضع في غزة فقط"، بل يهدف تصدير الأسلحة لإسرائيل إلى دعم التوسع الإسرائيلي والقضاء على المقاومة في لبنان وبقاء الجولان السوري تحت الاحتلال وتثبيت دور إسرائيل كدولة "إقليمية عظمى" تحمي مصالح الهيمنة الأمريكية وقواعدها في الشرق الأوسط.
وهنا أود أن أوضح لوزارة الخارجية الأمريكية أن قطر ومصر يمثلان في مفاوضات غزة جميع الدول العربية والموقف العربي بخصوص الوضع في غزة. وهو، بالمناسبة، نفس موقف حركة حماس والسلطة الوطنية في رام الله، والذي يتلخص في الانسحاب الكامل من قطاع غزة. وإذا ظنت الإدارة الأمريكية أنها تستطيع أن تلتف أو تتجاوز مواقف مصر أو قطر فإن ذلك مستحيل. ولا يمكن تسليم الأسرى لدى الجانب الفلسطيني دون الانسحاب الكامل. والقضاء على حماس، كما أثبتت الأشهر الماضية، وكما أثبت ويثبت تاريخ حركات النضال الوطنية، مستحيل حتى لو توهم الإسرائيليون قدرتهم على "إبادة الشعب الفلسطيني بأكمله" في قطاع غزة والضفة الغربية.
لقد أصبح واضحاً للعالم أجمع تصنيف الحكومة الإسرائيلية دولياً بارتكابها جرائم حرب، ويجب أن تعي الخارجية الأمريكية ذلك، وأن تعي أيضاً أن الجولات المكوكية لوزير الخارجية بلينكن لا يمكن أن تنسي العالم أو تغطي أو تجعله يتغاضى عن المزيد من سياسات الإبادة الجماعية التي ترتكبها هذه الحكومة المجرمة في حق البشرية، لا في حق الشعب الفلسطيني وحده، ودم الـ 40 ألف شهيد فلسطيني خارج نطاق أي تبرير وتحت أي مسمى من المسميات، وتتحمله الأيدي الصهيونية القذرة التي استمرأت الخروج على القوانين والمواثيق والأعراف الدولية والإنسانية، وتمارس جرائمها ضد المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ.
أريد أن أوضح أيضا للخارجية الأمريكية أن مصر والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات والبحرين وغيرها من الدول العربية تقوم بأدوار عربية وسيطة ليس فقط إقليمياً على مستوى الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، وإنما لها أدوار وسيطة في قضايا أخرى دولية حساسة. فدولة الإمارات العربية المتحدة لعبت وتلعب أدوارا وسيطة في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وقطر ساهمت في عودة أطفال لذويهم بين طرفي الصراع الأوكراني.
وبهذه المناسبة، أود توضيح أمر هام، تلقيت بصدده عدد من الاتصالات، وهو توقيع قطر على البيان الختامي للمؤتمر في سويسرا بشأن أوكرانيا، ولم تدع روسيا للمشاركة به. إن قطر تقوم بدور وسيط عربي هام للغاية، وتسعى للحفاظ على علاقاتها مع جميع الأطراف الأساسية في الخلاف، أي مع روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية و"الناتو" والاتحاد الأوروبي، لهذا تحاول الإبقاء على كل الأبواب مفتوحة، والحفاظ على الخيوط الدبلوماسية الرفيعة "مشدودة" ربما، ولكن دون أن تنقطع، لتخفيف التوتر الكبير بين روسيا و"الناتو".
ويعود ذلك بالطبع لأن أي صدام مباشر بين روسيا و"الناتو" سيشمل الشرق الأوسط بكل تأكيد بسبب وجود قواعد الحلف العسكرية لدينا في المنطقة، لهذا فنحن العرب معنيون بشكل مباشر بالكل الأحداث الدولية المحيطة حتى بالصراعات في أوروبا الشرقية، وأوروبا بشكل عام، برغم ما يبدو من أنها صراعات "لا ناقة لنا فيها ولا جمل"، لهذا يجب أن يكون لنا دور مؤثر في تخفيف التوتر، وهو ما يدفعني للثناء على دور المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والجزائر وقرارها المشاركة بمجموعة "بريكس"، التي تسعى لانتقال العالم من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية وتفعيل دور الأمم المتحدة واحترام ميثاقها وتنفيذ قراراتها.
ختاماً، ينبغي على الخارجية الأمريكية أن تدرك أن العالم العربي وروسيا والصين وكوريا الشمالية وفيتنام ودول "بريكس" وإفريقيا وأمريكا اللاتينية قد ضاقت ذرعاً بالهيمنة الأمريكية على مصائر البلاد والشعوب، وضاقت ذرعاً بهيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي والتسويات بين الدول، وضاقت ذرعاً العقوبات والحصار الاقتصادي والإملاءات والتدخلات السرية والعلنية بالانقلابات والتظاهرات المفتعلة والثورات الملونة وقلب أنظمة الحكم التي قامت وتقوم بها أجهزة الاستخبارات الغربية، وتسعى جميعاً إلى إنشاء هيكل أمني وعالم جديد متعدد الأقطاب ينهي هذه الهيمنة الأحادية، عالم مبني على التعاون بين البلدان واحترام السيادة وطرق التنمية، عالم يهدف إلى ازدهار الشعوب، وعدم احتكار دولة أو قطب لأساليب العقاب الجماعي ضد أي شعب مثلما حدث ويحدث في سوريا واليمن ولبنان والعراق وكوريا الشمالية، وبالطبع ضد الشعب الروسي.
لقد آن الأوان لكي يفهم بلينكن وإدارته أن غالبية العالم تنظر إلى الوضع الراهن على هذا النحو، ومع بداية العام الجديد ربما ستصل الفكرة إلى قادة أوروبا الغربية، لا سيما في ظل الإنجازات المتلاحقة التي تنجزها القوات الروسية المسلحة على أرض المعركة في العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، وستغير من سلوكها المنسحق تحت إمرة الإدارة الأمريكية.
ولعله من الغريب أن يعجز القادة الأوروبيون عن فهم أحداث أوكرانيا منذ انقلاب عام 2014 من زاوية المؤامرة المدبرة لاستنزاف روسيا وإضعافها بهدف إيقاف مسيرة انتقال العالم إلى أجواء التعددية القطبية والتخلص من هيمنة القطب الواحد.
تماماً كما أنه من الغريب أن يعجز بلينكن وإدارته والدول الغربية عن فهم أن علاج القضية الفلسطينية لن يتم سوى بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهي ليست قضية الشعب الفلسطيني وحده، ولا الدول العربية وحدها، وإنما قضية العالم الإسلامي والبشرية قاطبة، ولن يساوم أحد على ذلك أبداً.