ربما مفردة الدكتور معرفة بالألف واللام دون ذكر اسم صاحبها تحتاج لتكملة أو ردا علي سؤال الدكتور مين ؟ لكننا في قريتنا الطيبة لا نحتاج لتعريف أو وصف أو نعت أو إضافة فالدكتور تعني بديهيا عبد ربه كامل الخولي الاسم الثلاثي الذي يحفظه أكثر من 30 ألف نسمة عن ظهر قلب.
فهو فى حياتنا لا يعكس لدينا سوى مدلول اللفظ المباشر، ومساحة النطق بها فى ثوان، ليس في قريتي إخناواي فحسب بل في كل القري التابعة لها والعزب فإخناواي قرية أم يتبعها 5 قرى وأكثر من 20 عزبة وتابع وجميع أهلها له مع الدكتور عوالم وأبعاد وتاريخ وجذور وأصول وفلسفة ومنطق وحب وتسامح وضحك وهزار وبكاء وداء ودواء ومرض وشفاء وعلاج من الأجزخانة وأحيانا من شنطة الدكتور علي حسب الحالة
والكل له موقف ثابت وواضح وصريح " عبد ربه كامل " وصل البيت كله يضحك ويفرفش وينسي المرض والهم ويتحول الجالسون حول المريض كالجالسون علي مقهي شعبي يشاهدون مسرحية العيال كبرت ، حتي المريض نفسه ينسي مرضه وهمه ويتفاءل خيرا بالدكتور
في قريتنا الدكتور عبد ربه من قواعد البلد وسقفها وجدرانها وقوائمها واساسها ، له في كل بيت فعل الفاعل والمفعول وحرف الجر والمجرور يفتح به الله دروب الحال والمحال ويجر خلفه بشريات الأمل والشفاء ، الراجل بركة ، الراجل ده طيب ، الراجل ده بنحبه ، الراجل ده شاطر ، عبد ربه مفيش زيه ، عبد ربه الله يبارك له ، عبد ربه ايده فيها الشفا ، الله يحفظه ، ويسعده ، ويعوضه خير ويرزقه بالولد أصل خلفته بنات ،
بس كل ولاد البلد ولاده ، وكل المتفوقين عياله ، وكل الفلاحين حبايبه وكل الصنايعية أصحابه دعوات متواصلة بالليل والنهار من قلب أم ، شفي ولدها ، وزوجة ارتاح قلبها ، واب اطمن علي ولده ، وقلبي علي ولدي انفطر ، الكل مجتمع في الدعاء لعبد ربه ، أدعية من القلب تشبه ابتهالات النقشبندي وقت السحر ، والنقشبندي نسيبه وعم مراته وجد عياله وناس بركة وربنا صالح حالهم
نشأنا نحب بعضنا ونتزاور ويراعي الجار جاره ويتفقده حتي إذا غاب زاره، ده مريض، لا نطمن عليه ، ابوكم عامل ايه يا ولاد تعبان يا عمي ، اطمنوا هجيب له الدكتور ، والدكتور تعني عبد ربه كامل الخولي ، خلاص يا عمي الدكتور شافه ، بجد ، عبد ربه جه خلاص اطمنوا ربنا هيجيب الشفا ، هو فين عاوز أشوفه ، الدكتور روح يا خسارة كان نفسي أشوفه كنا ضحكنا شوية ، هو طبيب الروح مش طبيب المرض
بحكم الصداقة والجيرة والقرابة أصبح عبد ربه خالي وكان يعتز بها ويناديني ، ازيك ياد يا ابن أختي وهذا من حسن حظي أن عبد ربه خالي ، ازيك يا خال ، وأتسارع وأطرح أي كلمة علي هيئة سؤال لأسمع من الأستاذ إجابات ليست كالإجابات، عبد ربه خبير في اللغة الإنجليزية ، وحافظ للعربية ، ومتفوق في الفرنسية ، ويحفظ ألفية ابن مالك ، مش كده وبس لا وخطه يضرب به المثل ويتفوق علي الخطاط المهني ، شاطر في الرياضة ، والهندسة ، ودماغه ألماظ في التاريخ والجغرافيا ، قاموس لغوي متحرك ،
فرصه أدردش معاه هستفيد من حكاياته خاصة عن أصحاب الكراسى والمناصب وأصحاب القلم.. هسمع منه عن الحب والعشق. هسمع منه عن الزمن الجميل، عن الذكريات واللمبة الجاز وأول كلوب ، عن ليالي الشتاء الساهرة عن فترة عمله في الصعيد ومغامراته في نهر النيل ومزارع القصب مع خالي مسعد، المهندس الزراعي القائم مقام الطبيب ، عن الوظيفة والمعاش عن الرواية والحكايات ، عبد ربه خبير وتاريخ ويعرف مواقف وحكايات يشيب لها الغلام يعرف جيدا ما يجوز وما لا يجوز، يعرف الساكت والمسكوت ، أصل عبد ربه فاهم وناصح ومتودك ، ويعرف القرد مخبي ابنه فين ، وآخر الليل بعد العيادة بيشغل الشيخ ياسين ويدندن
كشف الدكتور عبد ربه يشبه فحوصات، هيئة الأمم ، وجهود مخلصة تضاهي فحص فريق طبي ووجه مبتسم وملامح صارمة ومصير كيانى فالعيون كلها تراقبه وهو يرفع السماعه من علي أذنه ويحرك النظارة حتي أرنبة أنفه ، والقلوب بها متعلقة خير يا دكتور فالدكتور مش متخصص لكنه خبير أسنان وشاطر في رئات وباحث فى البطن والكبد واستشارى لكل الأمراض ، ودواه فيه الشفا ، ولو مش في ايده هيوجهك صح علي المتخصص ، وهيتابعك في المستشفي ويزورك متخفش عبد ربه هيكون جنبك .. ها خير يا دكتور ؟
يشخص بعيونه وينظر لكل المنتظرين كلمة منه ، هو انتم مجبتوش التموين ،ـ وتعني في الفلاحين فين الشاي ، لا موجود بس طمنا المريض ماله ، لا ملوش زي القرد بيستهبل عايز يشوف غلاوته وإذا بطرفة تخرج من فيه تقلب الحال ويدخل الجميع في حالة ضحك هيستيري بما فيهم المريض الذي كان يتوجع منذ دقائق ، وبس خلاص ربنا جاب الشفا
علي مدار أكثر من أربعون عاما عاش الزاهد الصوفي المربوط قلبه بحب الناس كل الناس بكافة أشكالها واطيافها وألوانها يعالج ويداوي لا يرد أحدا ولا يطلب فيزيتا ولم يحدد تسعيرة ، اصل كل البلد قرايبه وأهله ، والناس غلابة ، اللي معاه يجيب اللي فيه النصيب ، واللي معهوش يتوكل علي الله ، أصل عبد ربه طيب وغلبان وعمره ما رجع حد ولا زعله ،
الليلة فقط الدكتور وصل ، ليس لبيت مريض أو لعيادته بل لمحطة النهاية ، وصل عبد ربه كامل الخولي لمحطة الموت والموت فجـأة في ثوان رحل الدكتور في ليلة بكائك على البكاء عليك.. ليلة ينام فيها وحيدا فى بطن الحوت وليس هو بالنبى يونس.. ليلة تصعب الروح علي الروح
الدكتور عبد ربه غاب ، والغايب حجته معاه، وما بين الطيبين حساب، وكل مريض هيحس بغيابه ، والشمس طالعة تدور عليه وعصفور عيادته هيغرد لوحده من غير ما حد يسمعه.. وياريتها دامت
العمر انقضى فى الانتظار يا دكتور والموت لامس خطوته عتبة دارك ومطرحك والليلة ليلة زفتك أحسبك والله حسيبك سعيد بما تركته من أثر ، بس البلد كلها حزينة يا دكتور ، محدش عارف مين بيعزي مين السرادق كله يتقبل العزاء ، وازاي في الشارع الكبير سرادق وانت مش فيه ،
اللهم بحق نبيك محمد صلي الله عليه وسلم وبحق القرآن الكريم والصلاة التي كان يصليها في مسجد سيدي اسماعيل شفع فيه نبيك واجعل هذا الليلة أسعد لياليه ، وابدله يا الله دارا خيرا من دراه وأهلا خيرا من أهله واسقه من حوض نبيك شربة لا يظمأ بعدها أبدا
اللهم إن عبدك عبد ربه كامل الخولي في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم
اللهم ارحمه رحمةً تسع السماوات والارض اللهم اجعل قبره في نور دائم لا ينقطع واجعله في جنتك آمنًا مطمئنًا يارب العالمين