أنا الذي وُلدت في ديسمبر المجنيّ عليه، والمرميّ في بئرٍ من الشجن مرغم إليه، وهو الشهر الذي حكم عليه قانون فصول العام ومحكمة الأيام وقاضي المناخ، بأنه نهاية لفصل الخريف وبداية لفصل الشتاء، من عراء وهواء وتساقط للأوراق، لبرد يأكل عظم الجسد وينحت في الأجساد الواهنة.
ظلموه أنه مبشر بالشتاء فما أطول لياليه، وأي بشريات في الظلمات الطويلة؟ وشتاء على الحفاة العراه ، وليس شتاء التجمع من خلف النوافذ الزجاجية والورود الزاهية.
بل وضعوه في زمرة الليالي الرومانسية متهمين إيّاه بموسم تلاقي الأرواح المختلطة بالدفئ المنشود، وكيف الدفئ في شهر مكتوب عليه ومرسوم على جبينه أنه شهر الشجن والحزن واختلاط المشاعر التي تصل لذروتها، وتركب سنام جمل الأحلام، وهي لا تعرف كيف تقود الجمال ولا وجهتها، ولا تعرف لصبرها دليل
تحرك رياح ديسمبر عراجين الأشجار حاكمة عليها بالتخلي عما يسترها من ورق وتتعري مستقبلة لفح الصقيع على لحم الغلابة ولحوم العلماء مسمومة فمن خلطها بالسم في زمن اللا علم، حتى علماء الحرمين استقبلوا المغنين بالأحضان، وفتحوا آفاقهم للفن العاري، وانتهي التعليم جملة وتفصيلاً واكتفينا بالدرس الخصوصي حتى المدارس في ديسمبر لم تعد تستقبل طلابها، ومن يستطيع يعلم ابنه في الجامعات الأهلية بديل للجامعات الخاصة
ولما تمخض العراب واصفا ديسمبر قال فيه"ديسمبر هو رائحة النهاية مختلطة برائحة البداية، هو الشعور بأن مرحلة سيئة توشك على الانقضاء ، هو الأمل الزائف أن الأمور ستتغير بانتهائه، أن ما بعده عام جديد بحظ لربما سعيد"
لربما وآه من ولربما يا عم الدكتور أحمد خالد توفيق تنبأت بالكثير حتي بطريقة وفاتك وكنت حاسما في كل الأمور فلماذا في ديسمبر قلت لربما ألهذه الدرجة هو بلا ملامح؟ أيكفيه الشجن؟
ويبقى لديسمبر حسنة وحسنات وخير وخيرات ورزق وأرزاق، رونق خاص وحياة خاصة هي بدايتي في أحضان أبي المنزوع مني رغما عني تقبله الله في الصالحين فما أن يأتي ديسمبر إلا ويأخذني الشجن لليالي الشتاء الدافئة بأحضان أبي
وكلما جاء ديسمبر أندم على ما فاتنى من زمن لم أكن فيه على مقربة من أبي مذ أخذتني نداهة الصحافة ودعت أمي عليّ وأنا في ريعان شبابي وقت مطر ديسمبر وكانت السماء مفتوحة: روح إلهي تبقي صحفي واستجابت السماء لنداء أمي لأغمس نفسي كليًّا في بلاط صاحبة الجلالة متمرغا في ترابها وشاربا من نداها
ومنذ تلك الدعوة الصادقة آسٍ أنا على كل لحظة انضوت من عمري بعيدا عن صداقة ابي، وحزين أنا علي كل ثانية وقت مهدرة لم أجلس فيها برحابه العطر بعيدا عن مسامرته ومحادثته ومكاشفته وملاطفته ومداعبته ومتابعته ومرافقته وملاينته ومجاملته ومداراته ومصانعته وملاينته
بي كثير من الشجن المحبط للوقع والإيقاع، لأبي هذا الفارس الذي اشْتَكَى لَحْمَ قَدَمِهِ من غِلَظِ الأرضِ والحِجارَة فقد كان أبي يخلع حذائه وهو يحرث أرضه احتراما لترابها الطهور فهو يعي أن جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا وهو الباني لمكان وضوئه علي الترعة من أحجار خرسانية حتي يتوضأ، وهو المصلي على كومة القش فالأرض طهور في نفسها ومطهرة لغيرها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكان أبي حافظا للبخاري؟ أم مستمعًا جيدًا لخطيب الجمعة وخواطر الشعراوي؟
لا وقت للرفاهية عند أبي إلا للاستماع للشعراوي وكلمتين وبس لفؤاد المهندس علي موجات إذاعة البرنامج العام، وعشق الإستماع للقرآن الكريم بصوت أسيادنا، نعومة صوت الشيخ عبد الباسط وقوة تجويد الشيخ الحصري وملائكية الشيخ مصطفي إسماعيل وفحولة الشيخ عنتر وشباب الشيخ بسيوني، وعظمة الشيخ سيد متولي وثأر الشيخ رفعت، وأنغام الشيخ أبو العينين شعيشع، وجمال الشيخ الشعشاعي وعذوبة الشيخ الفشني، وإن زاد الترفيه ملائكية فلتواشيح الشيخ النقشبندي والفشني والفيومي وكامل يوسف البهتيمي،
كان أبي عاشقا لكل ما هو جميل حتي لا يشرب أي نوع من السجاير إلا التي يصنعها بيده من تبغ الموتسيان فحناينك يا دخان سيجارة أبي
.
كيف غفلت أنا عن هذا الرجل الذي لم يأمرني يوما بشئ ولم يعاتبني يوما على شئ
بل كان متلقٍّ جيد لكل أسئلتي العطشى فيجيبها بسرد هادئ وثري، يأخذني وإياه في رحلة سفر أشبه برحلات السفاري بها تجليات التاريخ والواقع العصىّ والتاريخ الذهبى والرواق النقي واللحن الشجي والنهر القصي كانت هذه حكاوي أبي واسم أبي ورواية أبي وقصة وسرد ابي وأسطورة و حديث أبي
رحم الله أبي.. وسلام علي روح أبي .. ألف سلام .. ولا سلام عليك ولا إليك يا شهر ديسمبر فلا جميل لك علينا وأنت من علمتنا أن ننفخ لكي نشعل جمرات كف أيادينا " المزنهرة "من شدة البرد ونحن صغار حتي قطعت الأنفاس، وها هي قد قطعت دون أن نحمي التراث .
قاسٍ أنت يا شهر ديسمبر كقسوة الممر الرخامي في المباني الحكومية، الذي لا يحمل أي دفء لأبنائه ولا الغرباء عنه، وعاتب أنا عليك ما حييت وحظك معي أنني كاتب صحفي اعتني بالتفاصيل وكل تفاصيلك معي ما هي إلا "شجن وأنين وحنين"