طال بنا انتظار الطائرة على جسر الترعة تحت الشمس التى كانت ترمى بشرر كالقصر فى ذلك اليوم القائظ من شهر اغسطس..
تأخرت الطائرة التى كان الجميع ينتظر وصولها بفارغ الصبر، لكى تقوم بمهمة رش حقول القطن لمقاومة الدودة
و قد أجبرتنا الشمس على الالتجاء إلى ظل شجرة صفصاف وارفة الظلال كان قد سبقنا إليها بعض رجالات القرية و القرى المجاورة الذين كانوا ينتظرون معنا الطائرة ..
كنا أطفال صغار تدهشنا حركات الطائرة صعودا و هبوطاً فوق حقول القطن لتقترب منها لتطير على ارتفاع منخفض جدا تكاد تلمس من خلاله الأرض وترمى برذاذ محمل بمواد سامة لقتل الدودة
و كنا حريصيين كل الحرص على متابعة الأمر متابعة تفصيلية حتى لو نمنا اسفل الطائرة و هى تطير على ارتفاعات منخفضة جدا
و لنا مع تلك الطائرة موقف ربما يحين الوقت للكتابة عنه بشكل تفصيلى فى وقت اخر
تحت الصفصافة كان حديث الرجال يدور لتسلية الوقت و كسر حدة حرارة الجو المصحوب برطوبة خانقة
كنا صغار لا ندرك عن ماذا يتحدث هؤلاء الرجال ، فلكل منا عالمه الخاص و جلساته و احاديثه، فهم يتحدثون فى شئونهم ، و نحن نحب الحديث عن العفاريت و الجنيات التى تقابل الكبار ليلا اثناء رجوعهم من الحقول او ذهابهم اليها لمطاردة مياة الرى الشحيحة
و لكن ضيق المكان اسفل الصفصافة جعلنا نشترك معهم فى مجلس واحد ، لنستمع فقط ، فلا يمكن لطفل ان يتحدث فى مجلس رجال
المهم كانوا يتحدثون عن شخص حلنجى و نصاب و حرامى و به كل العبر
و كل منهم يحكى قصة له مع ذلك الشخص
فهذا يتحدث عن انه شاركه على بقرة و لكنه غافله و باعها بدون علمه و اكل عليه حقها
و ذاك يتحدث عن مشاركته له فى محصول ارض زراعية و لكنه استغل مرضه و قام بحصاد المحصول و باعه دون انتظار حضوره
و ثالث يذكر انه لا كلمة له و لا عهد مستغلاً أنه مالوش كبير يترد عليه
الكل يسهب فى وصف ذلك الشخص و يضع كل ما يستطيع من اوصاف سلبية عليه
حتى جاء الدور على كبير القعدة ، ربما كان مالك الصفصافة ، لا أذكر
و لكنه كان رجولاً عجوزا حفرت الأيام فى وجهه اخاديد وحفر، و تركت فمه بلا أسنان تقريبا
اعتدل الرجل من رقدته ، حيث كان يضجع متخذاً من جذر الصفصافة متكئاً له و قال بكل ثقة مكملا حديث القعدة عن الشخص الحلنجى النصاب
"أصله ولد ديمقراطى"
نزلت الكلمة على مسامعى بشكل موسيقى طربت له ، خاصة انه نطقها بشكل يكاد يغنيها و هو يضغط على الحروف
لم أكن أعرف معنى الكلمة ، و لا احد من الجالسين المستمعين، لذلك أمن الجميع على وصفه قائلين " والله عندك حق يا ابا يوسف"
مضت الأيام و كلما مررت من مكان الصفصافة تذكرت الرجل الذى كان يتحدث فى تلك الجلسة كحكيم الزمان
و كلما تذكرت الموقف اضحك كثيرا على ايامنا الحلوة
قبل أن تأخذنا نداهة الديمقراطية
و تلف بينا فى المتاهة التى لا نستطيع منها فكاكاً