لقد حث الشرع الحنيف على معالى الأخلاق ورغب في محاسن الأداب, وبعث ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتمم مكارم الأخلاق, ولم يكتف الشرع بالحث والترغيب فحسب, بل جسد القرآن الكريم الأخلاق وجعلها صورة حية في قصص الأنبياء وسير المرسلين؛ لنتأسى بهم ونقتدي بهم, كما قال تعالى عن أنبيائه ورسله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام: 90], فتأثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأنبياء واقتدى بهم في أخلاقهم وشيمهم وأفعالهم وعبادتهم وصبرهم.
فهذا داود عليه السلام الذي اقتدى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سجدته التي وصفها القرآن بقوله: {وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ}[ص: 24], فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مر بآية سجدة سَجَدَ, ودعا بهذا الدعاء: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود".
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ شديد الإعجاب بعبادة أخيه داود عليه السلام, وكثرة الصلاة والصيام؛ حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوماً".
ودُهش ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحنجرة أخيه داود عليه السلام وعذوبة صوته, وجمال أدائه, والذي وصف جماله القرآن بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيۡرَ}[سبأ: 10], فكانت الجبال والطير تتمايل معه من جمال صوته, ولما سمع ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوت أبي موسى الأشعري أعجب به وبجمال صوته، وقال: "لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود", ولقد رغب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تحسين الأصوات عند قراءة القرآن, فقال: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ", وقال أيضاً: "مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا".
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ شديد الإعجاب بكسبه وعمله وصنعته وحرفته وهي الحدادة, كما قال تعالى عنه: {وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ}[الأنبياء: 80], رغم أن داود عليه السلام كان مَلِكاً نبيا غنيا, إلا أن الغنى لم يمنعه من العمل والكسب لشرف العمل والكسب, ومهانة الفراغ والبطالة والعطالة؛ حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من عمل يده", فتأثر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وكان يعمل ويكتسب ويرعى الغنم, وما بعث الله نبيا فارغا ولا عاطلا لا يعمل, وما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم, وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وسافر ـ صلى الله عليه وسلم ـ للتجارة مع عمه أبي طالب في رحلة الصيف إلى الشام, وسافر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتاجر في مال السيدة خديجة رضي الله عنها قبل الزواج بها.