إذا كان الماء بلا لون ولا طعم ولا رائحة, فقد اشتمل الحزن على أقبح الألوان, وأنتن الروائح, وأمر الأطعمة, حينما يخيم بسواده على قلب الإنسان, ويهجم بقسوته على النفس, والذي إذا استرسل الإنسان وبالغ فيه ربما أصابه بالاكتئاب أو الأمراض العضوية, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه, ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن".
وعلى العكس تماما هناك الحزن الراقي أو الحزن الصحي, وهو حُزن الإنسان من أجل أخيه الإنسان, لألم يؤلمه أو مصاب أصابه, وهو ما ينبغي للمؤمن تجاه المؤمنين, قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهذا حال المصطفى صلى الله عليه وسلم وحزنه وأسفه على غيره ممن أعرض واستكبر عن الإيمان, كما قال تعالى عنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6].
وكان الصحابي الجليل أسامة بن زيد دميم الخلقة ولا رغبة للنساء في الزواج منه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن له, واسترسل النبي صلى الله عليه وسلم في الحزن عليه, حتى تَخيل أنه جاريةٌ غيرُ مرغوبٍ فيها؛ فبالغ في تزينها؛ ليتنافس عليها الخُطاب, وقال: "لو كان أسامة جارية، لحلَّيته وكسوته حتى أُنفِّقَه".
ثم في عرصات القيامة وأهوالها لا يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه, ويقول: نفسي نفسي, ولكن يهتم بأمته وينشغل بها, ويقول: اللهم أمتي أمتي, فيجبرالله تعالى خاطره في أمته, ويقول له: "إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".
والجزاء من جنس العمل فمَن يهتم بغيره وينشغل بأخيه, جديرأن يزيل الله مشاكله وأحزانه, وأن يمسح عنه أوجاعه وآلامه؛ لأن الله تعالى بنفسه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه, ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته, كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وحزن الإنسان لأخيه الإنسان بسبب ألم أو وجع أو مصاب يساوي فرحة الإنسان لأخيه الإنسان بسبب رزق أو عُرس أو نجاح, وكلاهما روح الدنيا وسعادتها, وفرحة الحياة وبهجتها, من خلال زيارة المريض وتخفيف ألمه, أو تعزية أهل الميت ومواساتهم في مصابهم, أو جبر خاطر الفقراء واليتامى والأرامل والمساكين؛ أو مشاركة أهل السعادة في سعادتهم؛ ولهذا كانت أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على إنسان أو شر تدفعه عن إنسان أو حُزن تُخففه عن إنسان.
وفي الفرح لفرح الغير يقول ابن عباس: "ما نزل غيث بأرض إلا حمدت الله وسررت بذلك، وليس لي فيها شاة ولا بعير, ولا عرفت آية من كتاب الله إلا وددت أن الناس يعرفون منها ما أعرف".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيواسيهم ويخدمهم ويقضي لهم حاجتهم.
ولما شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه, فقال له: "إن أردت تليين قلبك ؛ فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم", فالذي يطعم الناس ويخدم الناس يجد سعادة في قلبه وفرحة في صدره لا يشعر بها إلا صاحب الحزن الراقي.