ظهرت من جديد وبقوة على الساحة ظاهرة الإقراض الربوي (الربا)، متخذةً أشكالًا متعددة وأسماءً براقة لتخفي وراءها جشعًا قاتلًا لدى فاقدي الضمير ممن يستغلون حاجة البسطاء الباحثين عن سد احتياجاتهم اليومية أو زواج بناتهم هؤلاء المرابون أشبه بالشياطين الذين يطلون برؤوسهم في أوقات الأزمات مستغلين ظروف الناس المعيشية القاسية غير مبالين بما حرمه الدين وجرمته القوانين يحاولون شرعنة أفعالهم بطرق ملتوية متناسين أن الربا من أكبر الكبائر التي حذر منها القرآن الكريم، وأن الربا جريمة تاريخية ممتدة فالمرابون الذين عرفوا تاريخيًا بـ"بائعي المال" ليسوا ظاهرة جديدة في مجتمعاتنا فقد نبذتهم الإنسانية منذ القدم وحرمتهم الشرائع السماوية تاريخيًا ارتبطت هذه المهنة باليهود الذين أسسوا قوانينها البشعة لاستغلال حاجات الناس ومن خلال فرض شروط قاسية على المقترضين كان المرابي يستولي على ممتلكاتهم وصولًا إلى إدخالهم السجون إذا عجزوا عن السداد.
ويتجلى الجشع في فرض فوائد باهظة قد تصل إلى 100% أو أكثر من أصل الدين فالمرابي يقرض شخصًا يعلم يقينًا أنه غير قادر على السداد ثم يجبره على توقيع إيصالات أمانة وكمبيالات بمبالغ مضاعفة هكذا يصبح المقترض المقهور ضحية لاستغلال لا إنساني يخدم فقط طمع المرابين وجاء التحذير الإلهي من الربا في القرآن الكريم فقد جاءت آيات صريحة تحذر من خطورة الربا وعقوبته يقول الله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا"، كما يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، وهذه الآيات تؤكد أن الربا ليس مجرد معصية بل هو إعلان حرب من الله ورسوله على من يتعامل به وإن كان العقاب مؤجلًا فإنه واقع واقع لا محال لأن ذلك وعد من لا يُخلف وعده سبحانه وفي الحديث النبوي الشريف قال رسول الله "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" فالقرآن والسنة قد حسما الأمور وأوضحا أنه لا مجال للشك أن الربا مكابرة ومحاربة لرب العزة متمثل في التجارة المُحرمة بالأموال وأن الله ورسوله قد نهوا عن هذا الفعل الحرام.
ولعل الظروف الاقتصادية بيئة خصبة لاستغلال الفقراء ففي ظل الأزمات الاقتصادية التي تعصف بمجتمعاتنا يجد العديد من الأسر أنفسهم أمام خيارين كلاهما مر فإما التخلي عن أحلامهم الضرورية كزواج أبنائهم أو علاج مرضاهم أو اللجوء إلى هؤلاء المرابين الذين يستغلون ضعفهم ومن خلال إحدى التجارب الشخصية تدخلت للوساطة بين أحد العمال وأحد تجار الربا المبلغ الأصلي كان 6 آلاف جنيه لكنه مع الفوائد تراكم ليصل إلى 40 ألف جنيه بعد 11 شهرًا فقط الأغرب أن المرابي ومحاميه تحدثا عن حقوقهما وكأنهما يمارسان عملًا أخلاقيًا بل كانا من المواظبين على الصلوات متناسين أن أفعالهم تنافي تمامًا تعاليم الدين فهم يرون أن الصلاة هي الدين والتدين متناسين ضحايهم من ضحايا الربا الذي يُنتج أسر مشردة وأحلام مدمرة فقصص الضحايا كثيرة ومؤلمة عائلات بأكملها انتهى بها الحال إلى السجن بسبب عدم القدرة على سداد ديون مرابي بينما كان حلمها بسيطًا متمثل في تزويج ابنتهم أو توفير علاج لأحد أفراد الأسرة بدلًا من تحقيق تلك الأحلام تجد هذه الأسر نفسها مدمرة ومشردة بعد أن التهمت الديون كل شيء وبكل أسف تجد مؤسسات قانونية تحت ستار الشرعية فقد تجاوز الأمر المرابين الأفراد ليشمل مؤسسات مالية وبنوكًا توسعت في تقديم القروض الاستهلاكية قصيرة الأجل مستهدفة الفقراء والمحتاجين تحت مسميات براقة تنافست هذه المؤسسات مع تجار الربا الفرديين محولة الربا إلى تجارة قانونية تخدم جشعها تلك المؤسسات التي من المفترض أن تسهم في تحسين الاقتصاد من خلال تقديم قروض استثمارية طويلة الأجل وميسرة أصبحت شريكة في تعميق معاناة البسطاء بل ومنافسًا غير شريف للمرابين الأفراد مستغلة حاجات الناس لتحقيق أرباح خيالية على حساب آلامهم وهناك مدن ومحافظات تتحول إلى معاقل للربا نعم هناك مناطق في مصر باتت معروفة بانتشار تجارة الربا خاصة مع انتشار تجار سيارات النقل الثقيل ومستلزماتها هذه الممارسات ليست قصصًا خيالية بل واقع يعيشه كثيرون في مختلف القرى والمدن وما نواجهه اليوم هو عودة ممارسات كادت أن تنقرض لكنها عادت بقوة مع تراجع القيم الإنسانية والدينية.
وأري أنه لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي أمام هذه الكارثة على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها بتتبع المرابين ومحاسبتهم هؤلاء معروفون في كل قرية ومدينة ويشكلون خطرًا أكبر من السارقين لأنهم يساهمون في تعميق جراح المجتمع وزيادة معاناته عزيزي القارئ في خطوة تاريخية قبل عدة سنوات أصدرت محكمة السنطة بمحافظة الغربية حكمًا ببراءة أحد المدينين مع الحكم بالحبس على المرابي بعدما تبين أنه استغل حاجة الضحية هذا الحكم اعتبره يمثل بداية أمل لمواجهة الظاهرة قانونيًا لكنه يحتاج إلى مزيد من الجهود لكي يصبح قانونًا أنه ما الداعي القانوني لكتابة إيصالات الأمانة ومنع تجارة المال والإقراض بالربا وتجريمه وعلى مستوى الأفراد يجب أن نعمل معًا لمقاطعة المرابين اقتصاديًا واجتماعيًا بعدم التعامل معهم أو تزويجهم كما يجب الإبلاغ عنهم للجهات الرقابية ليكونوا عبرة لغيرهم أما البنوك والمؤسسات المالية فعليها أن تعيد النظر في سياساتها النقدية خاصة سياسات الإقراض فيجب أن يكون التركيز على القروض الاستثمارية طويلة الأجل وتقديم قروض ميسرة بفائدة صفرية للمحتاجين وأصحاب المشروعات الصغيرة هذه السياسات والتي تطبقها العديد من الدول غير الإسلامية أثبتت نجاحها في تقليل معدلات التضخم وتحسين الاقتصاد.
ظاهرة الإقراض الربوي(الربا) ليست مجرد استغلال اقتصادي للمحتاجين فحسب بل هي جريمة أخلاقية تهدد استقرار المجتمع والحلول ليست مستحيلة لكنها تتطلب إرادة حقيقية من الدولة والمجتمع. يجب أن نتكاتف جميعًا أفرادًا ومؤسسات للقضاء على هذه الظاهرة وإعادة القيم الإنسانية التي افتقدناها في تعاملاتنا الربا ليس تجارة أبدًا بل هو وجه آخر للظلم الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيار المجتمعي وتتميق الإنهار الأخلاقي المتاح عن الردة الأخلاقية التي أصابت مجتمعاتنا العربية والتي أصابتها جرائم الربا ضمن الحرائق المضرمة في أخلاقنا وأخلاقياتنا وثقافاتنا وهويتنا ورحنا جميعًا نبحث عن أخلاقًا غابت في رحلة البحث عن أنفسنا في مكان لم نأت من الأصل إليه بل أماكن زارته ارواحنا الشريرة بثت سموم العصر الذي من بينها الربا والإقراض بالفائدة المضاعفة…
في النهاية الدين واضح ولا يتحزأ "وأحل الله البيع وحرم الربا" ووجود الربا يعني من جديد ربا وخراب