مازالت العادات والتقاليد والأعراف تحكم وتتحكَّم في مجتمعاتنا في صورة الجلسات العرفية ، تلك الجلسات التي إعتادنا عليها في صعيد مصر ، لإنهاء الخلافات الثأرية ووقف نزيف الدم، من خلال جلسة صلح عرفية يحضرها شيوخ وكبار القبائل فى المحافظة ، وفى ظل حضور أمنى مكثَّف ، وتستغرق هذه الجلسات شهور وربما سنوات لإنهاء الخصومة ، ولعل النزعة القبلية في صعيد مصر تستحق مثل هذه الجلسات ، لكن أن يظل المجتمع الريفي يتمتَّع بالقبلية والعائلية وعلاقات المصاهرة والإنتماء المكاني ، ويلجأ هو الآخر الى تلك الجلسات التي إنتشرت في ربوع مصر فهذا أمر يستحق الدراسة .
لعل تباطؤ عملية التقاضي بالمحاكم المصرية وإرتفاع كُلفتها ، وتعدد درجات الحكم كانت سبباً في إنتشار تلك الجلسات ، خاصة وأن ما يقرب من 90% من تلك الجلسات التي تبدو في ظاهرها ، كهيئة المحكمة مكتملة الأركان ممثلة في قاضي ومستشارون وشهود ، ترضخ لها الأطراف المتخاصمة وتكون شروط المحكِّمين مغلَّظة ، ولكن هل يرضى بها كلا الطرفين؟
اذا كانت تلك الجلسات تحد من تفاقم الأزمات فى المجتمع ، فهي ربما تصلح في قضايا الأسرة ، وكما قال الله عز وجل في كتابه الكريم (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) ، وكما يقول المثل ( حارتنا ضيقة وبنعرف بعض ) ، فأهل القرية يعلمون ظروف بعضهم ، ومن هنا فإن الحُكم يراعي ظرف ووضع كِلَا الطرفين ، وربما تكون الأحكام من حيث السرعة ومراعاة الوضع الإجتماعي ، أفضل بكثير من اللجوء للمحاكم ، أو حتى محكمة الأسرة.
الا أن في كثير من الحالات لا تصلح تلك الجلسات ، التي تمثل تمييزاً سواء في إختيار أعضائها ، أو في القرارات الصادرة عنها ، والتي تميل الى الجانب الأقوى في كثير من الأحيان خاصة في الأمور المالية ، ففي كثير من القضايا التي تتعلق برد أموال أو فض شراكات ، وحتى لا يتهم أعضاء لجنة المصالحة بالميل لطرف دون الآخر ، يخرج الحكم بتنازل الطرف صاحب الدين عن جزء كبير من الدين يقارب ثلث المبلغ ، وهذا في حد ذاته لا يعد حكماً سديداً ، إضافة الى أن كثير من الخلافات غير المالية ، وقضايا الشرف يتم الحكم فيها بالغرامة المالية ، ولا أعلم هل قضايا الشرف والعرض أيضا يعوضها الغرامة المالية؟!.
أما كيف يتم إختيار أعضاء اللجنة ، فهي بمثابة التعبير عن مكانة الأعضاء فهي إما تتشكل من كبار العائلات التي تتميز بالسلطة والنفوذ ، أو من شخصيات إرتضى بها الأطراف المتنازعة ، لكن في الأغلب الأعم لا يتحلَّى هؤلاء بقدرٍ كافٍ من العلوم سواء في القانون أو في الدين ، ليكون حَكَماً عدلا ، وتخرج أحكامهم يشوبها كثير من الميل والهوى ، ولا يحق لأحد الأطراف الإعتراض على الحكم والَّا أصبحت أزمة عائلية لأن رفض الحكم يعد إهانة للمُحِكِّمين وهم إما أقارب أو أصهار أو حتى جيران.
وبعد كل ذلك وطالما أن الجميع أصبح يلجأ الى تلك الجلسات هرباً من المحاكم ، واذا وضعنا في الإعتبار كيفية إختيار قاضي المحكمة ، الدارس للقانون ولا يشوب صحيفته الجنائية شائبه ، فيجب أن توضع لوائح لإختيار أعضاء تلك الجلسات العرفية ، فلا يكون السن أو الوجاهة الإجتماعية ، أو النفوذ أو الوضع الإقتصادي أسباباً للإختيار ، بل يكون العلم والفقه الديني إضافة الى السمات الشخصية يجب أن تتوافر فيهم ، وعلى أعضاء تلك اللجان أن يعلموا قبل أن ينضموا اليها أن أحدهم في الجنة والاثنين الآخرين في النار ولا ندري هل إثنين فقط في النار أم ثلاثتهم ! .