مهما كان الإنسان طيبا وخلوقا ومسالما فلن يسلم من ألسنة الناس ولا من حديثهم الجارح ولا كلماتهم النابية، وما سَلِم الأنبياء ولا الرسل من أهل السخف والتطاول فكيف يسلم غيرهم!
وفي التعامل مع هذه الفئة العدوانية من البشر سلك بنا الشرع الحنيف مسلكين: المنهج والقدوة.
أما المنهج فقد حث الشرع الحنيف على تجاهل سيء الخُلق ونهانا عن الرد على قليل الأدب أو مجاراته فيما يقول، فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه * وإن خليته كمدا يموت
ومدح القرآن الكريم الذين يتجاهلون سيء الأخلاق ولا يجارونهم في سوء أخلاقهم، فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63].
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا
فالسفيه أصله من شَوك السمك وسفهه الذي لا قيمة له، وكذلك السفيه، فلا تجعل له قيمة بمجارته والرد عليه، فمن تجاهل السفيه فقد أوسعه جواباً وأوجعه عقاباً.
أما القدوة فتتلخص في التطبيق العملي لأخلاق الأنبياء والرسل وإعراضهم عن أهل السفه الجاهلين، فنوح عليه السلام يجيب من رماه بالضلال بقوله: {لَيۡسَ بِي ضَلَٰالَةٞ}[الأعراف: 61]، بلا جدال ولا نقاش، وهود عليه السلام يجيب من رماه بالسفه: {لَيۡسَ بِي سَفَاهَةٞ}[الأعراف: 67]، وانتهى الرد والجواب.
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد استأذن عليه رهط من أهل البذاءة فقالوا: السام عليك، دون اللام يريدون الموت عليك يا محمد فغضبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقالت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: "يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، قال: أولم تسمع ما قالوا: قال: "قلت: وعليكم"، وهل يليق بأصفياء الله أن ينزلوا من علياء أخلاقهم إلى مستنقع أهل الخفة والطيش والسفالة!
لنْ يستطيع الطيب المهذب أن يغلق أفواه السابين الشاتمين، ولا أن يحبس ألسنة المعتدين، لكنه يستطيعُ أن يدفن نقدهُم ويزعجهم بهدوئه وتجافيه لهم وإهمال شأنهمْ، واطِّراح أقوالهِمِ، وهو يقول لهم: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}.
فلا تحزن ممن أساء إليك، ففي الحقيقة قد أحسن إليك حينما أعطاك من حسناته، وأهداك من طاعته، فإن لم تكن له حسنات ولا طاعات أخذ هو من سيئاتك، حتى يتمنى الجريح المكلوم أن الظلم كان أشد والجرح كان أعمق، في يوم الحساب والقصاص، حينما يقتص الله تعالى للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
لا تحزن فإنما هي سهام الشيطان الرجيم لسرقة قلبك، وتكدير صفائه، وتعطيلك عن تحقيق أهدافك وإشغالك عن الوصول لمرضات الله في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى عن هذه العملية الشيطانية: {أَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا}[مريم: 83]، ودفعهم دفعا على الصالحين الطيبين.
وأخيرا هذه محاولة لتحييد الجاهلين واتقاء شرهم وإسكات عدوانهم، وهناك مرتبة أرقى وأعلى وهي تحويلهم من أعداء مخاصمين إلى أصدقاء محبين من خلال دفع سيئاتهم بالإحسان إليهم، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ}[فصلت: 34].