{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }الرفث: الجِماع{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }تعليل لحل الرفث الجِماع ليلة الصيام؛ لأنَّ الزوج لا يستغني عن زوجةٍ، كما لا يستغني عن ثيابه ولو في ليالي الصيام، فهي له بمنزلة اللباس؛ وكذلك هو لها، وعبَّر سبحانه عن العلاقة الزوجية باللباس لما في الثياب من ستر العورة والقرب والحصانة والزينة، وكذلك الزواج؛ ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الزواج: "فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج"، وحكمة أخرى موجبة لهذا الحل، وهي:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} بتعريضها لعقاب الله، بالجماع ليلة الصيام، وكان حراما في بدية تشريع الصيام{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بنسخ الحكم الأول؛ لما فيه من المشقة؛ والنسخ إلى الأسهل توبة كما في قوله تعالى في سورة المزمل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[المزمل: 20]{وَعَفَا عَنْكُمْ}أي تجاوز عما وقع منكم من مخالفة.
{فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ}بعد تحريم المباشرة بالليل، وتحقيق التوبة والعفو، والمراد بالمباشرة الجِماع؛ وسمي كذلك لالتقاء بشرة الرجل، وبشرة المرأة {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي اطلبوا بالجماع ما قدر الله لكم من الولد والذرية{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}وفيه كراهة الوصال؛ لأنه مخالفة للأمر بالأكل والشرب، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تسحروا فإن في السَّحور بركة" {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}حتى يظهر ظهوراً جلياً بحيث يتميز به بياض النهار من سواد الليل، وقوله (لكم) يفيد أنه لو أكل يظن أنَّ الفجر ما سطع وقد سطع، فصومه صحيح؛ لأنَّ الفجر الصادق قد بان في نفسه ولم يبن له.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ}أكملوا الصيام على وجه التمام{إِلَى اللَّيْلِ}قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ}؛ لئلا يظن أن المباشرة المأذون فيها شاملة حتى حال الاعتكاف، فالجماع مبطل للاعتكاف{فِي الْمَسَاجِدِ}بيان للواقع؛ لأن الاعتكاف المشروع لا يكون إلا في المساجد، وفيه أنَّ الاعتكاف مشروع في كل مسجد؛ لعموم قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ}، أمَّا حديث :"لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة"، فالمراد به الاعتكاف الكامل، وفيه أن الاعتكاف يكون في آخر رمضان؛ لأن الله ذكر حكمه عقب آية الصيام، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}النهي عن القرب أبلغ من مجرد النهي عن الفعل؛ لأنَّه نهي عن الشيء ومقدماته{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ}المشار إليه ما سبق من أحكام الصيام والاعتكاف{لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}وتقواه تكون بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
ولمَّا ذكر التحريم الخاص الذي يحصل في الصيام بيَّن التحريم العام الذي يحصل في الصيام، وفي غير الصيام، فقال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} فاعتبر مال غيرك بمنزلة مالك في المحافظة عليه، وخُص الأكل؛ لأنه أقوى وجوه الانتفاع{بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}والباطل: كل ما أخذ بغير حق{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} والمراد إعطاء القضاة والحكام الرشوة؛ ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم{لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ}أكلاً مصحوباً بالإثم؛ لأنه باطل{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}حرمة الرِّشوة، وحرمة أكل أموال الناس بالباطل, وقد يعذر الجاهل وأنتم لا عذر لكم.