رئيس مجلس الإدارة
شريف عبد الغني
رئيس التحرير
ناصر أبو طاحون
رئيس التحرير التنفيذى
محمد عز
  1. الرئيسية
  2. وجهات نظر

الشيخ أبو بكر الجندي يكتب: بين الروح والجسد (3)

يذكر دكتور في الطب الشرعي أنه استدعي لتشريح جثة إنسان ميت منذ أسبوع، حتى خرجت الرائحة من البيت التي هي فيه، قال فلما أتينا الجثة كاد أن يُغمِى علي من شدة وقسوة رائحتها الكريهة.
وهذه الرائحة الكريهة هي مبدأ الإنسان أيضاً وأصله وأساسه، وهي التي قال الله تعالى فيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: 26]، والحمأ المسنون: الطين الذي تُرك حتى اشتدت عُفُونته.
فكيف صارت هذه الطينة الكريهة مُعَظَّمة ومُكَرَّمَة عند الله؟
صارت هذه الطينة بهذه المكانة باتصال الروح بها وهي النفخة العلوية الربانية التي قال الله تعالى عنها: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}[السجدة: 7 - 9].
وهذه النفخة هي سر الإنسانية المُكَرَّمة، وهي التي أهلته لسجود الملائكة له، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ص: 71 - 74]، فلُعن إبليس وطُرد من رحمة الله لمَّا لم يعظم ما عظمه الله تعالى، فالإنسان أعظم حرمة عند الله من الكعبة نفسها.
وبين المادتين (الروح والجسد) يتقلب الإنسان، فتنشرح نفسه أحياناً حتى يحب الخير للعالم أجمع لدرجة الإيثار على ذاته، وقد تضيق عليه روحه حتى يكره نفسه التي بين جنبيه. 
وهناك من انحاز للجسد بكل الشهوات والمحرمات لدرجة نسيان الروح حتى جاعت الروح وعطشت وماتت أو انتحرت من شدة الجوع والعطش.
وهناك من انحاز للروح وأضر بالجسد كحال مَن قال عنهم القرآن: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}[الحديد: 27]، وهي الانقطاع عن الدنيا تماماَ، وحرمان الجسد من حقوقه واحتياجاته؛ حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابي الذي قام طيلة الليل يصلي في ليلة زفاف عروسه دون الاقتراب منها، وقال له: "إن لنفسك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا فأعط كل ذي حق حقه".

وبعث الله الرسل وأنزل الكتب لإقامة الحق والعدل بين حاجات الروح وحاجات البدن، فقد سأل ثلاثة رجال عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوها سهلة ويسيرة فقالوا متعجبين: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فعزموا على حرمان البدن، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى"، فيتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن رغب عن وسطية الإسلام واعتداله، والتي بها كان للإسلام قوة ذاتية تجعله ينتشر بين الناس انتشارا عظيما؛ لأن قاعدته الكبرى: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).