كانت السّيول قد دفنت بئر زمزم، واندرس أثرها، فلم يَعد يعلم مكانها أحد، حتى كادت مكة أن تعود خرابا بعد أن كانت عماراً، فرأى عبد المطّلب مكانها في منامه ، فأراد أن يحفرها وليس له من الأبناء إِلا ابنه الحارث، فنذر نذراً إِن رزقه الله عشرة من الولد، يعينوه على حفرها، أن يذبح أحدهم لله، فرزقه الله تعالى عشرة من الأبناء، وأخذوا في حفرها، حتى ظهر لعبد المطلب الْحِجَارَة الَّتِي طُوى بهَا الْبِئْر كبّر.
فعرفت قريش أن عبد المطلب قد صَدَقَ في رؤياه ووصل إلى البئر، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك في حفرها، فقال: إن هذا الأمر قد خُصِصْتُ به دونكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، فتحاكموا إلى كاهنة بأشراف الشام، فركبوا إليها حتى إذا كانوا ببعض الصحاري، نفد الماء الذي معهم، فظمئوا جميعا حتى أيقنوا الموت، فاستَسْقَوْا مِن قبائل قريش، فأبَوْا عليهم، وقالوا: نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فخاف عبد المطلب على نفسه وأصحابه، وقال: أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه، بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه بالتراب، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيْعَةُ رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً، فوافقوه على رأيه، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً.
ثم قال عبد المطلب لأصحابه: والله! إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا، حتى ركب عبد المطلب راحلته، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عينٌ من ماء عذب، فكبّر عبد المطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب، وشرب أصحابه، واستقَوْا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فشربوا واستقوا، ثم قال خصومه: قد والله! قُضيَ لك علينا يا عبد المطلب، والله! لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجعوا جميعاً إلى مكة، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين بئر زمزم، فحفرها هو وأولاده.
ثم بعد أن حفرها عبد المطلب أراد أن يَفِيَ بنذره وأن يذبح أحد أبنائه، فاقترع بينهم، فخرجت القرعة على عبد الله، فلمّا أراد أن يذبحه منعته قريش، لئلّا يكون فيهم سنّة، فاستفتوا كاهنا معروفا، فأفتاهم أن يسهم عليه وعلى عشر من الإبل- وكانت العشرة دية الرّجل- ففعل، فخرج السّهم على عبد الله، فقال له الكاهن: زد عشرا، فإنّ ربّك لم يرض، فزاد عشرا، ثم عشرا، ثم عشرا، فلم يزل يخرج السّهم على عبد الله، حتّى بلغ العدد مئة، فخرج السّهم على الإبل، فقال له: أعد القرعة، فأعادها، ثمّ أعادها فخرج على الإبل، فقال له: قد رضي ربّك، فانحرها فداء عن ابنك، ففعل، فاستمرّت الدّية في قريش مئة من الإبل، ثمّ جاء الإسلام فقرّر هذه الدية.
ومن هنا لقب النبي صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين يعني والده عبد الله وجَدّه إِسماعيل بن إِبراهيم عليهما السلام.