في كل جنازة، نقف على حافة الحقيقة الكبرى والحقيقة الجلية بل الحقيقة الوحيدة وهي الموت نشاهد الجثمان ملفوفًا في الكفن ونسمع الدعاء من قلوب مكسورة ونرفع الأكف إلى السماء نسأل الله الرحمة لمن سبقونا ووسط تلك المشاهد ينسى ويتناسي البعض أن الحكم على الميت ليس لنا وإنما إلى الله وحده الذي وسعت رحمته كل شيء، في الأسبوع الماضي ومع تأخر دفن الفنان الشعبي الراحل أحمد عامر بعد أداء صلاة الجنازة عليه بمسجد الحرايري في سمنود بمحافظة الغربية ومع موجة التفاعل عبر مواقع التواصل تعالت بعض الأصوات التي تجاوزت حرمة الموتى فبدأ البعض في تصنيف مصيره وإصدار أحكام غيبية لا يعلمها إلا الله.
علي الرغم من أننا في لحظات كهذه يجب أن نرجع خطوة إلى الوراء ونتأمل في معنى "حُسن الخاتمة" وبلوغ أول منازل الآخرة وترك الدنيا ونتذكر أننا جميعًا سائرون في ذات الطريق وأن الله وحده يعلم الخواتيم ويُبدّل السيئات حسنات ويستر ما لا نراه فمن مات بين يدي الله فقد نال كرامة الوداع وأحمد عامر كغيره من البشر كان له ما له وعليه ما عليه وهو الآن بين يدي أرحم الراحمين لا ينتظر منّا إلا الدعاء والستر وقد شاءت الأقدار أن يُصلّى عليه في مسجد بين الناس ويُدعى له بالرحمة جهارًا وأن تتأجل لحظة دفنه وكأن القدر يُمهلنا نحن جميعًا لنراجع أنفسنا: هل نحن مستعدون لهذا اللقاء؟
من مات وذُكر بين الناس ووقف له المئات يدعون له وبكت عليه قلوب محبة فهذا ليس أمرًا هيِّنًا وإنما آية من آيات القبول بين الخلق ودعوة للحي أن يتفكر في المصير لا أن يحكم نرى مشاهد تفيض بالعبرة فهاهي أم تبكي وزوجة منهارة وابن يُتم الآن وأصدقاء وأحبة لا يصدقون الرحيل كل هذا لا يجوز أن يُقابل بالتشكيك في المصير إنما يُقابل بالدعاء والتسليم فالموت باب سيدخله الجميع ومن أهم ما يُسأل عنه العبد هو نواياه وصدق توبته لا آراؤنا نحن عنه ولذلك نصيحتي لكل من أطلقوا لنفسهم عنان الحكم علي الأموات والأحياء اتركوا الموتى في شأنهم واسعوا لأنفسكم فمن المؤلم أن يتحول موت الإنسان إلى مناسبة لتبادل الاتهامات أو السخرية أو التجريح خاصة إذا كان الراحل فنانًا أو مشهورًا أو حتي مثيرًا للجدل لأننا مأمورون شرعًا وأخلاقًا أن نذكر محاسن موتانا وندعو لهم ونسأل الله أن يرحمهم ويغفر لهم ويجعل مثواهم الجنة.
فقد قال النبي الكريم: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفّوا عن مساويهم"، وهذه الوصية لا تحتمل التأويل بل هي قاعدة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون دينية فكيف نقف على جثمان من مات ونشرع في الحكم عليه ونحن لا نعلم ما بينه وبين ربه؟، ومن علامات حُسن الخاتمة أن يُصلى على الميت في جمع وأن يُذكر بخير وأن تُشيعه القلوب قبل الأقدام وقد رأينا ذلك في جنازة هذا الراحل، حيث توافد المئات رغم الظروف الحارة الأجواء الصعبة ودُعي له علنًا وبُكي عليه من قلوب خاشعة.
يا من تتحدث عن فلان أو تصنف علّان تذكر أنك أنت الآخر على الطريق ولا تدري بأي شيء تُختم صحيفتك فمن الناس من عاش عمره في معصية وخُتمت له بتوبة ومنهم من اغترّ بعمله فمات على غفلة فالخاتمة سر من أسرار الله لا يملك مفاتيحها أحد وقد يُقبض إنسان على حال يُظنه الناس مذمومًا وهو عند الله في منزلة عالية وقد يُدفن آخر في صمت تام وهو عند ربه وجيه لذلك لا يُقاس حال الناس بالمظاهر ولا يُوزن المصير بعدد المتابعين أو نوع العمل بل بنيّة القلب وخبايا السرائر التي لا يعلمها إلا الله، ونحن في زمن كثرت فيه الأحكام المعلبة والسخرية من الموتى قبل الأحياء وكأننا مُنحنا مفاتيح الجنة والنار فلنتق الله ولنتذكر أننا مسؤولون عن كل حرف نقوله، خاصة إذا كان في حق من رحل فدعوا الميت وشأنه وسلّموا أمره إلى ربه وارفعوا أكفّ الدعاء بدل ألسنة الإدانة فمن نحن لنحكم والله هو العدل الرحيم العليم بسرائر العباد الستّار لعباده الغفور لذنوبهم، الذي قال: "ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون..."
نحن إن كنا نعرف فنعرف ذاك المطرب الشعبي - وأنا والله لا أعرفه نهائيًا لا مطربًا ولا إنسانًا- الذي قضي حياته غناءًا ورقصًا وهو أمر مُحرم لا محال ولكن هل نحن نعمل ماذا بينه وبين الله هل قدم لآخرته أم غرته الدنيا وانعزل عن الآخرة بها وربما قد امل لآخرته وهو عند الله أفضل منا جميعًا إجابات هذه الأسئلة ليست من وظيفتنا ولا دورنا كل ما نقوله أن نفسًا رحلت إلي رحمة مولاها ونحن لا نملك إلا الدعاء وذكر محاسنها فإن لم تستطع فلتصمت