الإمام أبو محمد علي بنُ أحمد بنِ سعيد بنِ حزم الأندلسي، والملقب بالظاهري، ولد بقرطبة سنة(384هــ)، وتوفي بها سنة(456هــ)، عن عمر يناهز 72 سنة تقريباً.
نشأ ابن حزم منذ ولادته في عائلة ذات منصب وجاه ونفوذ، فترعرع في قصر أبيه الوزير، حيث الثراء وبسطة الحال، وبيئة الترف، والعيش الهنيء، وقد تولى شأن تربيته وتعليمه وتثقيفه مربيات القصر، والتي قال عن تربيتِهن له: "ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني رُبِّيت في حُجُورِهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وهن علمنني القرآن، ورَوَيْنَنِي كثيراً من الأشعار، ودربنني في الخط...".
ورغم حياة الرغد التي كان يتنعم فيها الإمام ابن حزم، إلا أن العفة والحياء والالتزام كانتا عنوانا للقصر الذي تربى فيه، فلم يعرف السُكر ولا المجون، ولا سَفهَ الأخلاق ولا سُفولَ الأفعال والأقوال، ولم تتلوث تنشئتُه بالآثامِ والمعاصي، على كثرة اتصاله بالنساء المربيات حتى سنِّ الشباب، ويؤكد ذلك بنفسه فيقول: "وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ..."، فنشأتُه الأولى المترفة والمرفهة تركزت على الترقي في طلب الكمال من معالي الأخلاق وكريم الصفات، وعلى التثقيف بمبادئ العلوم والتعريف بأبجديات الفنون.
محنته:
ولكن حياة الترف وعيش الرغد لم يدم له طويلا، فقد توالت عليه النكبات والابتلاءات والمِحن، والتي تتلخص في:
1ــ إبعاد والده عن القصر والوزارة وانتقاله معه لبيت قديم بغرب قرطبة.
2ــ اقتحام البربر لبيوتهم بغرب قرطبة، واحتلال منازلهم، وانتهاب أموالهم؛ فاضطر للجوء لمدينة الْمَرِيَّة بجوار قرطبة.
3ــ موت أخيه الذي كان من أحب الناس إلى قلبه سنة(401هــ)، وبعد عام توفي أبوه سنة(402هــ)؛ فازداد حزنه وتفاقم مصابه.
4ــ موت جاريته التي تعلق بها في صباه، والتي عدَّها أحد المصائب التي ألمت به، فقال: "كنت أشدَّ الناس كلفا وأعظمَهم حباً بجارية لي، ففجعتني بها الأقدار، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي، ولا تفتر لي دمعةٌ على جمود عيني...".
5 ــ سَجنه، ومُصادرة أمواله وتغريمه، وإحراق كتبه، والتي هي أحب للعالِم من ماله، وأعز عليه من بعض أبناء صلبه بل من روحه ومن نفسه؛ فهي ثمرة جهد وتعب، ونتاج سهر ونصب؛ والسبب في هذا النوع من المِحَن هو جُرأة الإمام ابن حزم وحِدَّته على علماء عصره، الذين شنعوا عليه، وحذروا السلاطين منه، ونَهوا عوامهم عن الدنو منه والأخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية من البوادي، فتوفي بها، وقد تسلى عن إحراق كتبه بقوله:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمّنه القرطاسُ، بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
فكانت حياة الإمام ابن حزم رحمه الله خليطاً بين الفرح والحزن، ومزيجاً بين الترف والبؤس، مما كان له عظيم الأثر في تغير مزاجه وتقلبه بين الرقة والعنف، بين الأسلوب الأدبي اللطيف والأسلوب الخشن الجاف، بين التودد والرفق وحِدَّة في اللسان وغِلظة الرَّد والجدال.