رئيس مجلس الإدارة
شريف عبد الغني
رئيس التحرير
ناصر أبو طاحون
رئيس التحرير التنفيذى
محمد عز
  1. الرئيسية
  2. وجهات نظر

الشيخ أبو بكر الجندي يكتب عن: شدة الإمام ابن حزم (3)

قام الإمام ابن حزم في القرن الخامس الهجري بحركة تجديدية تهدف إلى العودة لأصول الشريعة ومصادرها الأصيلة في معرفة الأحكام الشرعية، غير متقيد في ذلك بمذهب، ولا مرتبط بشخص معين، معتمداً على ظواهر النصوص، رافضاً القياس والتعليل والتأويل، معلناً حربه على التقليد والمقلدين، ونهجه في هذا تعقب المذاهب من خلال مناهجهم نفسها؛ ليكون أسكت لخصومه، وأدعى للرجوع عن أخطائهم، حتى خلف بهذا المنهج الذي رسمه لنفسه موسوعة علمية ضخمة.
ورغم التراث العلمي والخُلقي والأدبي الذي خلفه الإمام ابن حزم ــ ويبقى الكمال لله عز وجل وحده ــ إلا أنه يُنتقد على ابن حزم عنفه وحِدته على مَن خالفهم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الغلظة والشراسة، وقد اشْتَهرَ قولُ المؤرخين: "لسان الإمام ابن حزم وسيف الحجاج بنِ يوسف شقيقان"، مما جَرَّ عليه كثيراً من المِحن والويلات، وهو في هذا قد خالف النصوص الشرعية التي تحث على اللين والرفق في كل شيء حتى في أخطر المسائل، وفي مسألة الكفر بالله تعالى، ومع كل مخالف حتى مع ألد الخصوم، قال الله عز وجل لموسى وهارون ــ عليهما السلام ــ: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 43، 44]، فأين خُصُوم الإمام ابن حزم من خصومة فرعونَ للحق الواضح المبين مع موسى وهارون عليهما السلام.
حتى أن الإمام ابن حزم قد انكر على نفسه هذه الشدة، حيث قال عن إصابته بالرَّبو الشديد: "فَوَلَّدَ ذلك عليَّ من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر أمراً حاسبت نفسي فيه؛ إذ أنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي؛ وصح عندي أن الطِّحَال موضع الفرح إذا فسد تولد ضده". 
وبسبب هذه القسوة الحَزمية التي عرفت العلم ولم تعرف سياسته من اللين والرفق وسعة الصدر واستيعاب المخالفين فقد حُرِمَ من أمرين:
الأول: أنه لم ير بركةَ انتشارِ علمِه، الذي ظل محجورا عليه ومحجوباً عن الطلاب والباحثين إلى أن مات علماء عصره وتلامذتُهم، ثم خرج علمُه إلى النور رويداً رويداً، وانتشر تراثُه في الأمة شيئاً فشيئاً، حتى أفاد من بحر علمه المسلمون وغير المسلمين الذين صنعوا له تمثالاً بدولة أسبانيا تكريماً لشخصيته، وتخليداً لعبقريته.
الثاني: أنه لم ير تلامذتِه وطلابه في حياته؛ وذلك بسبب حَجب علمه ومحاولة إخفائه عن الناس، ومَثل الإمام ابن حزم كمَثل الوالد الصالح الذي لم ير ابنه البار.
ومن ناحية أخرى جانب الإمام ابن حزم الصواب في هجومه حيث جعل المخالف للفقه وللعقيدة سواء, رغم أن الفقه بمعناه اللغوي ومدلوله الاصطلاحي ما هو إلا محاولة فكرية عقلية، للوصول إلى اجتهادٍ بشري قابل للنقاش والتعقب والرد والتأييد والترجيح، وليس الفقه بمنزلة النص الشرعي المقدس؛ ولهذا أخطأ في مساواته بين مخالفة الشرع المقدس المـُلْزِم ومخالفة الفقه والفهم الذي لا يلزم إلا صاحبه، حيث جعل الجميع في هجومه وحدته سواسية.
وأخيرا وللحق لم يكن الإمام ابن حزم متربصاً بأخطاء المذاهب الفقهية، بل كان من إنصافه حريصا على التماس العذر لها، وتقصي مخارجاً لآرائهم الخلافية، وفي ذلك يقول: "وقد ‌أجهدنا ‌أنفسنا ‌في ‌أن ‌نجد لمخالفينا ‌شيئاً يُقَوُّونَ ‌به رأيهم، ‌فما ‌قدرنا ‌عليه ‌في ‌شيء ‌من ‌كتبهم، وجهدنا أن نجد لهم شيئا نُورِدُه - وإن لم يُورِدُوهُ هم -، فما قدرنا على ذلك".