الإنسان مفطور على كراهية الشر لروحه ومحبة الخير لنفسه، فلتتسع هذه المحبة لتشمل كل الناس، فإن ذلك لن يضر المحب شيئاً، بل يكتسب بذلك محبة الناس ومحبة رب الناس؛ لأن هؤلاء الأصفياء قد ترجموا عن إيمانهم وسلامة سرائرهم بمحبة الخير للغير، قال صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: "لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا"، فالحب هو مفتاح الجنة الأعظم.
وفي فضل تمني الخير للناس وإيصال المعروف إليهم يقول صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على إنسان"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ".
وانقى الناس قلبا وأصفاهم نفساً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سجل القرآن الكريم حبه للناس وحرصه على إيصال الخير إليهم وإبعاد الشر عنهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، ولما قال أعرابي وهو في الصلاة اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال للأعرابي: "لقد حَجَّرْتَ واسعا"، فرحمة الله وسعت كل شيء وعَمَّت كل حَيٍّ، فلما نحب الرحمة للناس، أو نضيق ما وسعه الله تعالى!
وقد لازم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما النبي صلى الله عليه وسلم واقتبس من نوره ومن هدية، حتى قال ابن عباس عن صفاء نفسه: ما نزل غيث بأرض إلا حمدت الله وسُرِرت بذلك، وليس لي فيها شاة ولا بعير، ولا سمعت بقاض عادل إلا دعوت الله له، وليس لي عنده قضية، ولا عرفت آية من كتاب الله إلا وددت أن الناس يعرفون منها ما أعرف.
وتزداد النفس بهذا الحب لمعاناً وتلألأ إذا أحبت الخير حتى لأعدائها وخصومها، كما قال ابن مسعود: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فَشَجُّوهُ وَأَدْمَوْهُ، فهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وجاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال: إن دوساً قد عَصَتْ وأَبَتْ فادْعُ الله عليهم، فاستقبل صلي الله عليه وسلم القِبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا، فقال: "اللهم اهد دوساً وائتِ بهم، اللهم اهد دوساً وائت بهم".
ويُحكى أن عجوزا جلس على ضفة نهر، وفجأة لمح قِطّاً يغرق في الماء، فمدّ له يده لينقذه فخمشه القِطّ يده، فمدّ يده ثانية فخمشه مرة أخرى ولا يزال يحاول إنقاذه حتى أننقذه، فقال الناس للعجوز معاتبين له: لم تتعظ من المرة الأولى ولا الثانية، وأنت تحاول إنقاذه؟ فأجابهم العجوز قائلاً: من طبع القِطّ أن يخمش ومن طبعي نفسي أن أُحبّ وأعطف وأحنوا وأنفع، فلماذا تريدون لطبعه أن يغلب طبعي!! يا أولادي: عاملوا الناس بطبعكم لا بطبعهم.
أما الشماتة والكراهية والأنانية فهي من صفات خبيثي النفس، وهو موضوع المقال القادم بإذن الله.