كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده في كفالة عمه أبي طالب، لكنه لم يكن عالة عليه فكان في أول شبابه يرعى الغنم في بني سعد وفي مكة لأهلها على قراريط، ثم انتقل إلى التجارة حين شب، واتسعت مداركه الاقتصادية، فكان يتاجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يماري، وجاء يوم الفتح فرحب به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: مرحبًا بأخي وشريكي.
ومن هنا اشتهرت سمعته الاقتصادية والأخلاقية، فلُقب بالصادق الأمين، مما دفع السيدة خديجة بنت خويلد لتطلب منه التجارة في مالها، على أن تعطيه ضعف ما تعطي رجال قومها، فاستشار عمه أبا طالب فقال لابن أخيه: هذا رزق قد ساقه الله إليك.
فخرج تاجراً في مالها وأرسلت معه غلامها ميسرة عيناً عليه حتى قدما الشام، وانتهت الرحلة على خير ما يرام، ورجع إلى مكة، قد ربحت التجارة ربحاً كبيراً لم تتوقعه ولم تر مثله من قبل، وسألت خديجة غلامها عما شاهده من محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنه لم ير منه فعل شرٍ، ولم يقترف رذيلة، ولم ينتهك عرضاً، أو يظلم أحداً من الناس أبداً، ولا يخون أمانته إذا استؤمن، ولم يفش سراً أسر له به أحد، وقد كان في أعلى درجات الأدب والسمو والجلال الأخلاقي، فبادرت السيدة خديجة من جانبها إلى الوضوح والصراحة دون اللف والدوران، وأفصحت عن ما تكنه في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، والتي فرحت لحسن اختيارها، وهي بدورها ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تكلمه عن رغبة السيدة خديجة في الزواج منه، فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى وخطبوها إليه من عمها عمرو بن أسد، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة، وكانت سِنُّها آنذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا.
واستمر هذا الزواج المبارك قرابة ربع قرن من الزمان، وظلت السيدة خديجة هي السيدة الأولى والوحيدة في قلب ووجدان النبي صلى الله عليه وسلم، فهي الروح والمستراح، وهي عطر الدنيا وبلسم الحياة، حتى بَشرها جبريل عليه السلام في حياتها، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"؛ لأنها لم تزعج زوجها صلى الله عليه وسلم، ولم تلجئه إلى صخب أو ضجر، ووفرت له كل سبل الراحة ولم ترهقه يوماً أو تزعجه أو تحزنه، بل كان الحزن الأكبر هو حزنه على وفاتها وأسفه على فراقها.
وتكلل هذا الزواج المبارك بالثمرة الطيبة والذرية المباركة فولِد للنبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة القاسم وعبد الله الذين توفوا قبل البعثة النبوية، وبناته فاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم، فكان جميع أبناء النبي صلى الله عليه وسلم منها رضي الله عنها إلا إبراهيم السيدة مارية القبطية رضي الله عنها.