ربما يتعب الإنسان في استعطاف قلوب الناس أو كسب مودتهم أو نيل محبتهم، حتى يحكي القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل اسْتِرْضاء نسائه حرم على نفسه بعض ما أحل الله له، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التحريم: 1]، في الحين أن الإنسان يملك مفاتيح قلب والديه منذ أن رأى نور الدنيا وقبل أن يراها، والوالدان في شوق دائم لانتظار نجليهما، ولهفة مستمرة لرؤية جنينهما؛ ليملأ عليهما الدنيا فرحاً وسعادة وانبساطاً؛ لذا لن يجد الإنسان أَحَن عليه من أبويه، ولا أرحم به من والديه.
حتى أن رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تقريب معناها للناس شبهها برحمة الأم، حيث رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من السبي تبحث عن صبيها، حتى إذا وجدته أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟"، قلنا: لا والله، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"، فعندهما دفئ الأسرة لا يبرد، وحرارة المحبة تتوهج ولا تنطفئ بكل صدق وإخلاص، لا تصنع ولا رياء في حبهما لأبنائهما.
وقد حث الشرع الحنيف على طول صحبتهما، والاقتباس من أنوار عطفهما وحنانهما، قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15]، ومجرد الاتصال بهما أو الزيارات الخاطفة لا تسمى صحبة؛ لأن الصاحب لا يُسمَى صاحباً إلا بطول الملازمة، وقال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك"، فلازم أبويك ولازم صحبتهما وجاهد في خدمتهما ورعايتهما، قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الجهاد فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها" فلن يدخل أحدٌ الجنة إلا برضها، ولا يَشم شذاها من آذاها.
عيسى عليه السلام وقد تحدث في المهد عن أصول المنهج الذي ارتضاه رب العالمين، وكان من أساسيات هذا المنهج قوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[مريم: 32]، فما أسعد البار بوالديه! وما أهنأ عيشه! وما أطيب حياته! وما أبعده عن الضيق والشقاء!
وفوق جنة البر والسعادة بصحبة الوالدين خير كثير وبركة في الرزق والصحة والعافية، قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليبر والديه وليصل رحمه"، وهناك أبواب للخير والرزق لا يفتحها إلا بر الوالدين وصلة الأرحام، وهناك أمراض حسية ومعنوية لا يشفيها ولا يعافيها إلا بر الوالدين وصلة الأرحام.
فليس في الناس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلاً وإكراماً من الوالدين، جعلهما الله مفتاح السعادة وروضة العطف والحنان، فهما سببٌ كبير لتفريج الكربات وتنزل البركات وإجابة الدعوات وببرهما والإحسان إليهما ينشرح الصدر وتطيب الحياة.