رئيس مجلس الإدارة
شريف عبد الغني
رئيس التحرير
ناصر أبو طاحون
رئيس التحرير التنفيذى
محمد عز
  1. الرئيسية
  2. وجهات نظر

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: معجزة مريم .. حكاية أبٍ هزم المستحيل !!

على الرغم من إجادتي لكل فنون الكتابة إلا أنني أفضل دائماً الاشتباك مع الواقع، لذلك تغلب على كتاباتي كل ما يتعلق بحياة البشر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فوق كوكب الأرض، ونادراً ما أكتب أدباً أو رواية خاصة وأن هذا النوع من فنون الكتابة يتغلب فيه ما هو ذاتي وخاص على ما هو موضوعي وعام، وفقه الأولويات عندي يغلب دائماً العام على الخاص، لكن هناك أحداث إنسانية شديدة الخصوصية تمر بنا وتجعلنا نتوقف أمامها، وتجبرنا على تجسيدها لنشارك القارئ فيها، وهذا الأسبوع أواصل تجربة الكتابة الإنسانية التي بدأتها الأسبوع الماضي عن نفسي، أما اليوم فسوف أكتب تجربة إنسانية عميقة ونادرة.
 
في حياة البشر محطات فاصلة تشكل معنى الوجود، وتعيد صياغة العلاقة بين الإنسان وقدره، ولعل ما عاشه صديقي الحبيب الغالي الأستاذ الدكتور فؤاد شهاب، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأهلية بالبحرين ونائب رئيس مجلس الشورى البحريني الأسبق، واحد من تلك النماذج النادرة التي تتجاوز حدود التجربة الشخصية لتصبح ملحمة إنسانية ملهمة للأمة كلها.
 
بدأت الحكاية عام 1988 حين رزق الدكتور فؤاد بابنته البكر، التي أسماها "مريم"، كان الحدث مبهجاً في ظاهره، لكنه حمل بين طياته امتحاناً قاسياً، إذ سرعان ما اكتشف أن مريم ولدت فاقدة لحاسة السمع، في مجتمع ما زال ينظر للإعاقة بوصفها وصمة ينبغي إخفاؤها، أو على الأقل التعامل معها في نطاق ضيق، وجد الأب نفسه أمام خيارين: إما الانصياع لتقاليد متوارثة تفرض الصمت والعزلة، أو مواجهة التيار بكل قوة، وفتح طريق مختلف يليق بكرامة ابنته وحقها في الحياة الكاملة.
 
اختار الدكتور فؤاد الخيار الأصعب والأكثر شجاعة، مواجهة المجتمع وصناعة المعجزة، لم يرضخ لنظرات الشفقة ولا لليأس الذي يحاول أن يتسلل إلى قلوب الآباء في مثل هذه المواقف، بل قرر أن يخوض حرباً ضد القوالب التقليدية، وأن يمنح مريم فرصة للحياة كما ينبغي أن تكون، ومن هنا بدأت رحلة مضنية عبر القارات بحثاً عن العلاج والحل.
 
لم يترك الدكتور فؤاد باباً إلا طرقه، ولا طريقاً إلا سلكه، شد الرحال أولاً إلى إنجلترا، حيث المستشفيات المتقدمة وبرامج التأهيل، ثم واصل المسير إلى الولايات المتحدة الأمريكية، محملاً بأمل أن يجد هناك العلاج الناجع، غير أن الحلم ظل بعيد المنال، فكان عليه أن يبحث عن بديل آخر، وفي النهاية، استقر به المقام في مصر، حيث أقامت أسرته أربع سنوات كاملة، كان يضطر لترك الأسرة وحدها في القاهرة ويعود لعمله بالجامعة بالبحرين، وقلبه معلق هناك حيث مريم قرة عينه، وكان يحضر لهم في غير أيام العمل، كان مجهوداً جباراً كرّسه لمتابعة حالة مريم والبحث عن معجزة منتظرة.
 
كانت السنوات الأولى عصيبة، خصوصاً مع نمو مريم دون أن تنطق أو تسمع، لكن إصرار الأب وصبر الأم جعلا المستحيل ممكناً، وعندما بلغت الطفلة الثانية من عمرها، حدث ما يشبه الخارق، بدأت مريم في الكلام، وكانت الكلمة الأولى التي نطقتها "بابا"، لم تكن مجرد كلمة عابرة، بل كانت بمثابة إعلان انتصار على الألم والتحدي، وإشراقة أمل أن الحياة قادرة على منْح هداياها لمن يصبر ويجاهد.
 
لم يتوقف إصرار الدكتور فؤاد عند حدود النطق الأول، كان يمكنه أن يختار الطريق الأسهل بإلحاق ابنته بمدرسة خاصة للصم، حيث تجد بيئة تشبهها، لكنه آمن أن التحدي الحقيقي هو أن تندمج مريم في الحياة العادية، وأن تخوض التجربة الكاملة مثل أي طفلة أخرى، أصر على أن تلتحق بمدرسة عادية، فواجهت صعوبات جسيمة، لكنها بصبرها وعزيمتها تجاوزت كل العقبات، شيئاً فشيئاً صارت تتكلم، وتعبّر، وتتفوق، رغم غياب حاسة السمع.
 
تدرجت مريم في مراحل التعليم، وحصدت النجاح تلو الآخر، حتى تحقق الحلم الأكبر، تخرجت في الجامعة، وبدأت مسيرتها المهنية في بنك البحرين الوطني، لتثبت أن الإعاقة لم تكن يوماً حاجزاً أمام الطموح، ولم تكتف بذلك، بل تم اختيارها مؤخراً رئيسة للاتحاد الرياضي للمعاقين في البحرين، لتصبح نموذجاً مضيئاً يحتذى به في التحدي والنجاح.
 
لم يكن الدكتور فؤاد ليسمح أن تبقى هذه التجربة طي الكتمان، أراد أن يوثقها، ليهديها إلى كل أب وأم يواجهان الموقف ذاته، وليقول لهم إن المستحيل قد ينكسر أمام الحب والإصرار، فقام بتأسيس مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لتنمية السمع والنطق، التابع للجمعية البحرينية لتنمية الطفولة، لتعميم تجربة مريم، ثم كتب كتاباً بعنوان: "حبيبتي ابنتي سميتها مريم"، وقد صدر في طبعته الأولى ونفذ سريعاً، ثم أعيدت طباعته ثانية فنفدت النسخ مرة أخرى.
 
وفي حديث جمعني بالدكتور فؤاد قبل شهور في القاهرة، لمسْتُ من جديد حجم عشقه وحبه لمريم، وكيف أصبحت سر حياته وقصة عمره، يومها اقترحت عليه أن نعمل معاً على إصدار طبعة ثالثة للكتاب عبر دار أطلس للنشر، التي أتعامل معها منذ سنوات، وبالفعل تحولت الفكرة إلى واقع، وتم تنظيم احتفالية كبرى الأسبوع الماضي في نقابة الصحفيين المصريين، في قاعة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
 
كان الحفل مهيباً، يليق بالمعجزة التي سطرتها مريم ووالدها، حضر جمع من كبار المفكرين والمثقفين والكتاب والصحفيين العرب، إلى جانب وفد رفيع من البحرين برئاسة الأستاذ الدكتور عبد الله بن يوسف الحواج، الرئيس المؤسس للجامعة الأهلية ورئيس مجلس الأمناء، ورفيق رحلة كفاح الدكتور فؤاد شهاب، بدا الاحتفال لوحة إنسانية رائعة، أكدت أن القصة لم تعد تخص أسرة واحدة، بل صارت ملكاً للإنسانية كلها.
 
لقد تحولت مريم بتجربتها النادرة إلى أيقونة عربية وعالمية، تمنح الأمل لكل من حرم من نعمة السمع، وتؤكد أن الحياة ممكنة مهما كان حجم التحديات، لم تعد مجرد فتاة بحرينية ناجحة، بل أصبحت رمزاً لقدرة الإنسان على تجاوز إعاقته، وإثبات أن الإرادة والحب يمكن أن يغيّرا الواقع.
 
أما والدها، الدكتور فؤاد شهاب، فقد سطر بمداد الصبر والحب أعظم درس في الأبوة، أثبت أن الأب الحقيقي ليس من ينجب فقط، بل من يحمل همّ أولاده ويخوض معاركهم حتى النهاية، ولعل كتابه "حبيبتي ابنتي سميتها مريم" سيظل وثيقة إنسانية خالدة، تُقرأ جيلاً بعد جيل، لتؤكد أن الحب وحده قادر على صنع المعجزات، اللهم بلغت اللهم فاشهد. 
 
بقلم  / د. محمد سيد أحمد