في حادثة جديدة تؤكد أن مسارعة العدو الصهيوني إلى ارتكاب الاعتداءات لا تأتي من فراغ، تعرّض وفد تفاوض حركة حماس ومكتبها السياسي في العاصمة القطرية الدوحة لعدوان آثم لا يليق بصداقة ولا بمواثيق دبلوماسية ولا بأبسط قواعد الإنسانية، هذا الاعتداء، الذي جاء في وقت كانت الأمة العربية في أمسّ الحاجة فيه إلى وحدة موقف ووضوح قرار، كشف عن مأساة استراتيجية أعمق، تراجع ثقة كثير من الدول العربية في حلفائها الغربيين، وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة، التي تتحدث في خِطابها عن قيم وحقوق وتتفادى في أفعالها مساءلة حليف إقليمي عن جرائمه.
الموقف الأمريكي من الحادثة كان نموذجًا صارخًا للتناقض، تصريحات متذبذبة، إنكار سابق للعلم بالحادث، وفي الوقت نفسه ارتياح ضمني أو عدم مبالاة علنية بسلامة تنظيم سياسي تفاوضي، هذه التصريحات المتناقضة لا تعبّر فقط عن ضعف في الدبلوماسية، بل تعكس موقفًا أوسعَ من التموضع الأمريكي في منطقتنا، سياسة تمييزية تُبرّر انتهاكات الحليف وتغضّ الطرف عن تجاوزاته، أو على الأقل تُؤجل المحاسبة إلى أجلٍ غير مسمّى.
إسقاطُ قضية الاعتداء على مجرد حدث معزول هو خطأ تاريخي وسياسي، العدوان على وفد تفاوض ليس اعتداءً على أشخاص فحسب، بل اعتداءٌ على منطق التفاوض ذاته، وعلى أيّ أملٍ في حل سياسي يقدم فيه الحق الفلسطيني ويُكرّم حريات شعوب المنطقة، ومن هنا تنطلق القناعة المتنامية لدى كثير من المراقبين والسياسيين بأن العدو الصهيوني ليس فاعلًا منفردًا بمعزل عن النفوذ الأمريكي، وأن العلاقة بين الطرفين أعمق من تحالف عابر، بل إن هناك مصالح استراتيجية وأمنية وسياسية تربط بينهما، ما يضع قيدًا حقيقيًا أمام قدرة أي طرف غربي على وقف العدوان أو فرض مساءلة جادة على تل أبيب.
وهنا تظهر الرسالة الأساسية للعرب الذين ينأون بأنفسهم عن قراءة الواقع بوضوح، من يراهن على قدرة الحماية الأمريكية لردع العدوان الصهيوني مخطئ، فالمتغطي بالأمريكي عريان في هذا الملف، حيث يكتشف أن الدرع الأمريكي ليست موثوقة حين تتصادم مصالح واشنطن مع حقوق الأمة ومبادئ سيادتها، وعلى الدول العربية أن تصغي إلى هذه الحقيقة المرة، لا ضمانات خارجية دائمة، ولا فرار من تحمل المسؤولية الوطنية.
الدرس الآخر الذي يفرض نفسه بعد هذا الاعتداء هو أن مشروع التعايش السلمي مع الاحتلال، الذي راهنت عليه بعض الأنظمة العربية عبر مسار التطبيع العلني والتطبيع الخفي، يجب أن يُعاد تقييمه بواقعية تامة، فالتطبيع بلا موازين قوة تُحمي المصالح الوطنية والحقوق المشروعة، وبلا آليات ضغط اقتصادية وسياسية ودبلوماسية ملموسة، يبقى مجرد اتفاقيات ورقية لا تحمي شرف قضية ولا تمنع عدوانًا، التعايش لا يتحقق عبر استسلام أو تلاعب بالمبادئ، بل عبر حكم رشيد واستراتيجية متينة قادرة على فرض شروط على الطرف المقابل.
إزاء هذا الواقع، لا بد من مقاربة عملية قائمة على أدوات واقعية وقابلة للتنفيذ، لا على قمم بلا نتائج ولا بيانات خالية من الآليات:
1.توحيد الموقف السياسي والدبلوماسي العربي، حيث سحب السفراء، وطرد سفراء العدو الصهيوني، وإغلاق السفارات، ووقف التطبيع، وقطع العلاقات، حتى تتحقق حقوق الشعب الفلسطيني.
2. آليات ضغط اقتصادية وقانونية، تفعيل أدوات اقتصادية مثل مقاطعات مستهدفة إلى حملات استثمارية موجهة، وقف التعاون الاقتصادي والتجاري، وحصار العدو اقتصادياً، التحرك الجماعي المنظم في المحافل الدولية والقانونية لمساءلة المعتدين وفضح تجاوزاتهم أمام الرأي العام العالمي.
3. تعزيز القدرة الذاتية، تطوير برامج دفاعية واستراتيجية إقليمية تضمن عدم تمكن أي طرف خارجي من استخدام الكيان الصهيوني كمنفذ لأجنداته دون حساب، القدرة الذاتية ليست بالضرورة سلاحًا بحدّ ذاته، بل منظومة شاملة للاعتماد على الذات في حماية المصالح.
4. دعم العمل الشعبي والإعلامي الحر، بتسليط الضوء المستمر على انتهاكات العدو الصهيوني بوسائل إعلامية وأكاديمية وتشجيع التضامن الشعبي العربي والدولي مع الضحايا، واستخدام الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يكون أداة ضغط فعّالة إذا ما نُظم بطريقة مهنية ومدروسة.
إن دعوة الاستيقاظ هذه ليست دعوة للعنف أو للتصعيد بلا حكمة، بل هي دعوة للواقعية الوطنية، أن نؤمن بأن الأمة العربية تملك أدوات قوة اقتصادية، وسياسية، وثقافية، إذا ما استُخدمت بحكمة وإرادة، وأن الاعتماد على وعود خارجية فقط دون بناء هذه الأدوات هو وصفة للهزيمة المتكررة، وعلينا أن ندرك حقيقة المؤامرات الاستعمارية التي تحاك ضدنا، فالعدو الصهيوني ما هو إلا ذراع أمريكا في منطقتنا، ويقوم بتنفيذ أجندتها ومشروعها المعروف بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد، إلى جانب مشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، لذلك فعلينا أن نفيق من الغيبوبة، ونتأكد أن صراعنا مع العدو هو صراع وجود وليس حدود، وعلينا أن نعد العدة لمواجهة هذا العدو الصهيوني ومن خلفه العدو الأمريكي وذلك لمنع مشاريعهم الاستيطانية التوسعية.
إن العدوان الصهيوني على وفد تفاوض حركة حماس في الدوحة وانسياق أو تحفظ الولايات المتحدة في إدانته يكشفان عن أزمة ثقة استراتيجية يجب أن تُعالج بعمل حقيقي لا بمجرد بيانات، على الدول العربية أن تدرك أن حماية مصالحها وشرف قضاياها لا يعوّل عليها إلا إذا بُنيت على سياسات ذاتية، فاعلة، ومُحكمة، المتغطي بالأمريكي عريان، والأمّة التي لا تعدّ عدتها وتجهّز أدواتها ستفقد الكثير، حان الوقت للاستيقاظ، لترك أحلام التعايش السلمي، وللتحرك وفق أجندة تمتلك آليات ضغط واقعية تردع العدوان وتحمي الحقوق، فالأمة لها أنياب تحميها، إذا قررت أن تستخدمها بعقل وحكمة وإرادة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد