الشورى في الإسلام شأنها عظيم وقدرها كبير، قد أنزل الله تعالى في شأنها سورة هي سورة الشورى، وإن الشورى لا تقل أهمية عن الصلاة والزكاة، ولهذا قرنها بهما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الشورى: 38].
والملاحظ في سورة الشورى أنها سورة مكية، أي أن المسلمين أُمروا بالشورى في مكة قبل الهجرة وقبل أن تقوم لهم دولة، مما يدل على أن الشورى لا تختص بالمجال السياسي فقط، بل إن الشورى هي القاعدة العريضة التي تقوم عليها مجالات الحياة كلها سياسا وعسكرياً واقتصاديا وزراعياً وصناعياً وتجاريا، على المستوى العام والمستوى الخاص.
ثم جاء القرآن المدني ليؤكد على ذات المبدأ، فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، وخطاب الآية موجه إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم أساساً، ولجميع الأمة تباعاً؛ لأن النبي الكريم الذي يوحى إليه لا يستغني عن مشورة أهل الرأي، فكيف بغيره!
فاستجاب صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وشاور أصحابه في كثير من المواقف التي لم يقطع الوحي فيها بحكم، فشاورهم في الأمور العامة، ومن ذلك:
ـ شاور أصحابَه قبل معركة بدر وبعدها، ولم يدخل المعركة إلا بعد أن اطمأن إلى موافقتهم جميعاَ رغم قلة العدد والعتاد.
ـ وفي معركة أُحُد نزل صلى الله عليه وسلم عن رأي الشباب لملاقاة العدو خارج المدينة، وأخذ برأي الأغلبية.
ـ وفي معركة الأحزاب أخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق.
ـ في يوم الحُدَيبية، حينما امتنع الصحابة أن يتحللوا من إحرامهم، بعد أن عزَّ عليهم ألا يكملوا عُمرتهم، فأشارتْ عليه أم المؤمنين أمَّ سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلَّل هو أمامهم دون أن يتكلم، فلما فعل ذلك اقتدوا به جميعًا صلى الله عليه وسلم، فالشورى في الإسلام تشمل الجميع ولا تستبعد أحدًا ولا تستقصي رجلًا ولا امرأة، فللكل حق في المشورة، والكل يعرض رأيه ويحترم آراء الآخرين.
كذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم في أموره الخاصة كما استشار عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد في أزمة حادثة الإفك.
ومهما علا عقل الإنسان ورجح رأيِه، فهو بحاجة إلى المشاورة؛ فمَن استغنى برأيه ضل، ومن اكتفى بعقله ذل، والشورى في أصلها اللغوي من شَار العسل، أي استخراجه من مكانه، وكأن الناس بالمشورة يستنطقون قرائح الذهن، ويستخرجون إبداعات الفكر وصائب الرأي.
كذلك الشورى تجمع بين الناس، وتؤلف بين قلوبهم، وتخلق جواً من المحبة والمودة، حتى قال ابن العربي: "الشورى ألفة للجماعة"، خاصة في الأمور المشتركة، فلا يتخذ فيها قرار أحادي يُسخط الشركاء حتى ولو كان صواباً؛ لأن هذا يشعرهم بالتهميش والإقصاء، والحرمان من حقهم، فالمشورة بين الشركاء واجبة، حتى بين المطلقين في فطام رضيعيهما وما يخصه، قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[البقرة: 233]؛ لأن الرضيع شركة بينهما.
وأخيراً النفس البشرية تكره الأوامر المباشرة أو الإلزامية أو العسكرية، أو الطرق الديكتاتورية التي تفرض الرأي بالإكراه، ولكن إذا خرجت هذه الأوامر من رَحم الشورى أو أسلوب الاقتراح، كانت أدعى للقبول من غيرها.