مشهدعجيب على (اليوتيوب) بقرة حشرت رقبتها وقرونها بين فرعي شجرة، فأتى رجل فقطع فرعاً منها بالمنشار لإنقاذها، فلما أنقذها نطحته بقرونها، ورجل آخر وجد حية تتلوى وتموت من شدة العطش، فجاء بالماء وسقاها، فلما شربت وارتوت، ما شكرته وإنما لدغته، هكذا هي الدنيا لن يشكرك الناس فيها على خير فعلته أو جميل أسديته، كما لم يشكروا خالقهم تبارك وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13] ، بل أكثر من ذلك سيجحدون فضلك وخيرك، كما جحدوا فضل رب العالمين، {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، وأدهى وأصعب من ذلك أن هذا أن النكران والجحود كثيراً ما يصدر من أقرب الأقربين، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}[التغابن: 14]، والأطم من ذلك أن الدنيا لا تفتر عن الأذي ولا تنقطع عن الإساءة، وما سَلِم من أذاها أحد حتى رب العالمين، وبعض الناس ينتحر ويقتل نفسه، والبعض يتمنى الموت؛ لأنه لم يعد يتحمل صدمات الدنيا ولا صواعقها المرسلة؛ فدخلوا الدنيا ولم يعرفوا حقيقتها ولا قسوتها، أما إذا علم الإنسان أن الدنيا مشتقة من الخِسَّة والدناءة فيرتاح قلبه وتسكن أعصابه، فالدنيا أشبه بالفسخانة أو الدباغة لن يجد منها إلا أقبح ريح فافهم أيها الإنسان لتستريح، والمطلوب منا حينئذٍ ما يلي:
1- أن نتقبل الدنيا كما هي بفظاعتها ونتعايش مع خسة أهلها وانحطاط أصحابها، كما تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الجاهلية وصبر على جاهليتهم وتحمل سفاهتهم بحُسن الخلق ولين الجانب، وبذلك ينال الإنسان أعظم أجر، وهو أجر الصابرين، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]، وثوابهم بغير عدد، وفي الحديث: "ما يصيب المسلم من: نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، وإذا رأى الإنسان ثواب صبره تمنى أن الدنيا ازدادت وقاحة وفُجْراً، وأنه ازداد صبرا وأَجْراً.
2- أن نزكي أنفسنا من خِسَّتها ونطهر قوبنا من دنائتها، حتى لا تتسرب عدوى سفاهاتها إلينا ولا تفاهتها إلى قلوبنا، وهذا التخلص مصدر الفلاح والسعادة في الدارين، قال تعالي: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى: 14 - 15]، فالصلاة والقرب من الله والابتعاد عن سخافات الدنيا من أهم أسباب تزكية النفس والارتقاء بها إلى علياء المقربين.
3- أن نُحْسِن إلى أهلها مع إسائتهم؛ لننال أجر المحسنين، ومحبة رب العالمين، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، وهو ما حث عليه الإسلام حيث قال رجلٌ: يارسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم وَيُسِيؤُونَ إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ ـ أي الرمل الحارـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك".
4- أن نطلب بالإحسان الأجر والثواب من الله وحده، ولا ننتظر من الناس شكراً ولا نفس المعاملة، وهذا من علامات الإخلاص لله، قال تعالى عن المخلصين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}[الإنسان:9]، فيحتسب المؤمن أجره على الله وثوابه من الله، ولا يحزن ولا يغضب ولا يحرق أعصابه ولا يعكر صفو مزاجه، والدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقد مر صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة، فقال لأصحابه: "فوالذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، فلماذا نطيل الحزن والأسف على الدنيا وأهلها؟ كحزن الطفل الذي ضاعت منه لُعبته، وأحزان الكبار هي لعبة في يد الصغار.