خلال الأيام القليلة الماضية ومع بدء العام الدراسي الجديد جمعتني عدة لقاءات مع بعض الزملاء المهمومين بقضايا الوطن ودار الحديث حول قضية التعليم، وهنا تذكرت ذلك التقرير الذي شاركت فيه عام ٢٠١٠ ضمن مرصد الإصلاح العربي الذي كانت تشرف عليه مكتبة الإسكندرية بتمويل من البنك الدولي، وهو التقرير الثالث لهذا المرصد الذي كان يستهدف رصد الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في البلدان العربية بهدف إصلاحها طوعيا، بعد الغزو الأمريكي للعراق، وشرفت بمشاركة أستاذي المرحوم الدكتور عبد الباسط عبد المعطي في التقرير الاجتماعي، وبمشاركة أساتذة عظام في التقارير الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكنا قد أفردنا التقرير الثالث لقضية التعليم في الوطن العربي، وأثناء الحديث اقترحت على الزملاء إعداد مشروع جديد حول التعليم بعد مرور كل هذه السنوات، ولكن سيكون تركيزنا على الحالة المصرية، وتشجع الزملاء وقمنا بالفعل بتشكيل فريق عمل، وعقدنا جلسة عصف ذهني نتج عنها رؤية عامة للمشروع بلورها الصديق الأستاذ الدكتور خالد فوزي في عنوان هذا المقال، وهنا أحاول تقديم رؤية عامة حول فكرة المشروع، وطرحها للنقاش المجتمعي.
فمنذ فجر التاريخ، كانت مصر مهدًا للمعرفة والتعليم، ومصدرًا لإشعاع فكري وثقافي في محيطها العربي والإفريقي، لكن التعليم الذي كان يومًا وسيلة للارتقاء الاجتماعي والتحرر من قيود الفقر والتهميش، أصبح اليوم ساحة تتجلى فيها جدلية الفرص والطبقات بوضوح لافت، فالمدرسة والجامعة لم تعودا مجرد مؤسستين للتعلم، بل أصبحتا مرآة للبنية الاجتماعية، تعكس التفاوت الطبقي وتعيد إنتاجه في صور جديدة، أكثر تعقيدًا وعمقًا.
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع اتساع نطاق التعليم العام المجاني، تشكلت قناعة جماعية بأن الشهادة التعليمية هي بوابة الترقي الاجتماعي، وأن التعليم هو أداة العدالة الاجتماعية الأولى في المجتمع المصري، لكن مع تحولات الاقتصاد والسياسة منذ السبعينيات، ومع صعود القطاع الخاص وضعف الاستثمار في التعليم العام، بدأ هذا الحلم يتآكل.
وأصبحنا أمام نظام تعليمي متعدد الطبقات، مدارس دولية وخاصة لأبناء الطبقة العليا، ومدارس لغات لأبناء الطبقة الوسطى العليا، ومدارس حكومية مكتظة وضعيفة الإمكانات لأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدنيا، هذا التفاوت لا ينعكس فقط في جودة المناهج والمعلمين، بل يمتد إلى طرق التفكير، ومستويات الطموح، وأشكال اللغة والثقافة التي يكتسبها كل طالب في بيئته التعليمية.
والجامعة، التي كانت تعد “مصنع النخبة الوطنية”، لم تعد كذلك بالنسبة للكثيرين، فمع ازدياد أعداد الطلاب وتراجع الميزانيات وضعف البنية التحتية، أصبحت الجامعات الحكومية تعاني من فجوة معرفية ومادية مقارنة بالجامعات الخاصة والدولية.
وفي المقابل، توسعت الجامعات الخاصة لتخدم في الغالب أبناء الشرائح القادرة ماديًا، حيث تشترى الفرص التعليمية بمقابل مالي مرتفع، بينما يعتمد الطالب الفقير أو المتوسط على نظام حكومي يفتقر إلى العدالة في التوزيع والإتاحة.
وهنا يتجلى بوضوح سؤال العدالة الاجتماعية، هل التعليم ما زال وسيلة للحراك الاجتماعي؟ أم أصبح وسيلة لإعادة إنتاج الامتياز الطبقي؟ الإجابة المؤلمة أن التعليم في مصر اليوم — رغم كونه متاحًا شكليًا للجميع — لم يعد يمنح الجميع الفرص نفسها في الواقع العملي.
ومن المنظور الأكاديمي، يمكن تفسير هذا الواقع من خلال نظرية "بيير بورديو" حول "رأس المال الثقافي وإعادة إنتاج الطبقات”، فالأسر الميسورة لا تملك فقط المال، بل تمتلك أيضًا لغة، وثقافة، وشبكات اجتماعية تمكن أبناءها من تحقيق النجاح التعليمي والمهني، بينما يفتقر أبناء الطبقات الدنيا إلى هذه الأدوات غير المادية.
فالطفل الذي يتعلم في مدرسة دولية يتحدث الإنجليزية منذ الصغر، ويستخدم التكنولوجيا بثقة، ويكتسب مهارات التفكير النقدي والعرض والإقناع — وهي مهارات تفتح له أبواب الجامعات العالمية وسوق العمل الحديث، أما الطفل الذي يتعلم في مدرسة مكتظة، بوسائل تعليمية محدودة، فغالبًا ما يواجه صعوبة في اجتياز امتحانات القبول الجامعي، أو يجد نفسه في تخصصات محدودة لا تتيح له فرصًا متكافئة.
ومن هنا تتضح جدلية "التعليم والمصير الاجتماعي" في أن نوع المدرسة والجامعة أصبحا محددين أساسيين للمسار المهني والحياتي للفرد، فالخريج من جامعة خاصة أو أجنبية يجد طريقه أسهل إلى الوظائف المرموقة والشركات متعددة الجنسيات، بينما يظل خريج الجامعة الحكومية — مهما كانت كفاءته — يصارع من أجل فرصة عمل مستقرة أو راتب لائق.
هذه الحقيقة تكرس نمطًا خطيرًا من اللامساواة البنيوية، حيث يتحول التعليم من أداة للترقي إلى أداة لترسيخ الفوارق الطبقية، وهكذا يصبح المصير الاجتماعي للفرد مرهونًا بقدرة أسرته على تمويل تعليمه، لا بقدراته الفردية أو اجتهاده الشخصي، كما كان الحال في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
إذًا لا يمكن الحديث عن العدالة التعليمية دون معالجة البنية الاقتصادية والسياسية التي تحكم المنظومة، الإصلاح الحقيقي لا يتحقق فقط بتغيير المناهج أو زيادة عدد المدارس، بل بتبني رؤية وطنية شاملة تربط التعليم بالتنمية الاجتماعية.
لذلك ينبغي إعادة الاعتبار للمدرسة الحكومية كمؤسسة مواطنة، تستوعب الجميع وتمنح فرصًا حقيقية للتميز، من خلال تحسين رواتب المعلمين، وتطوير البنية التكنولوجية، وربط التعليم بسوق العمل الفعلي، كما يجب أن تعمل الجامعات الحكومية والخاصة معًا على ردم الفجوة الطبقية في المعرفة والتدريب، بحيث لا يكون الانتماء الطبقي هو ما يحدد المستقبل.
إن التعليم في مصر يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، إما أن يستعيد دوره كمصعد اجتماعي يعيد توزيع الفرص ويحقق العدالة، أو يستمر في تكريس الانقسام الطبقي وتوريث الامتياز، إن جدلية الفرص والطبقات في مدارسنا وجامعاتنا ليست قضية تعليمية فحسب، بل هي قضية مصير وطني تمس جوهر العدالة الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي كما جسدها خالد فوزي في عنوانه، فحين يصبح التعليم حقًا متكافئًا لا امتيازًا طبقيًا، يمكن لمصر أن تعيد إنتاج قوتها الحضارية والإنسانية، وأن تفتح أمام أبنائها آفاق المستقبل التي يستحقونها جميعًا، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد