يبدو أن مفهوم "جيل زد" الذي انتشر في الخطاب الإعلامي والأكاديمي العربي قد تحول إلى مثال صارخ على فوضى استخدام المفاهيم المستوردة دون وعي بسياقها أو شروط إنتاجها، فالكثير من الباحثين يتعاملون مع هذا المصطلح كما لو كان حقيقة علمية كونية، في حين أنه نتاج بيئة غربية محددة تهدف أساسًا إلى تفسير أنماط الاستهلاك والتفاعل الرقمي داخل مجتمعات ما بعد الحداثة.
أما في عالمنا العربي، فيستورد المفهوم ويستخدم لتوصيف شباب متباينين في الطبقة والموقع الاجتماعي والفرص، وكأن أبناء القرى الفقيرة، وسكان العشوائيات، وخريجي المدارس الحكومية هم من النسيج ذاته الذي ينتمي إليه أبناء الصفوة المقيمين في المدن المسورة والمنتجعات ويتخرجون من المدارس الدولية، هذا التعميم ليس سوى نوع من الاستلاب الفكري، إذ لا يجمع بين هؤلاء سوى العمر الزمني، بينما تفصلهم المسافة الطبقية والثقافية والاجتماعية والتعليمية.
في مصر على وجه الخصوص، تتجلى هذه التناقضات بوضوح، فالشباب في الريف أو المناطق الشعبية والعشوائية يعانون من البطالة وغياب الخدمات وفرص المشاركة، بينما ينشأ شباب المناطق الراقية داخل فقاعة من العزلة والترف، منفصلين عن الواقع الوطني والاجتماعي، وكلا الطرفين – وإن حمل الهواتف نفسها واستخدم المنصات ذاتها – يعيش عالماً مغايراً تماماً في الوعي والاهتمامات والقيم، كيف يمكن إذن الحديث عن “جيل” واحد يوحد هذه التناقضات؟
وراء هذا الخلط نزعة خطيرة، إلغاء الوعي الطبقي لصالح تصنيفات سطحية تسهل توجيه الجماهير وفق أجندات خارجية، فحين يختزل وعي الشباب في رموز عامة مثل "الحرية" و"الكرامة" دون ربطها بالعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، يتحول الغضب إلى فوضى، وتفتح الأبواب أمام إعادة إنتاج نموذج "الثورات الملونة" التي أسقطت دولاً باسم الديمقراطية، لتقيم مكانها فوضى لا تنتهي.
إن ما يسمى "جيل زد" في منطقتنا ليس كتلة سياسية أو اجتماعية موحدة، بل فسيفساء من التناقضات، تتراوح بين الغضب الصادق واليأس، وبين الانعزال الرقمي والاستهلاك الثقافي السطحي، هذا الجيل، في جانب منه، ضحية انقطاع الأجيال، وانهيار منظومات التعليم والثقافة، وهيمنة الخوارزميات التي تصوغ له وعيه وتوجهه من الخارج.
لكن رغم ذلك، لا يمكن النظر إلى شباب اليوم كخصم، بل كطاقة كامنة يمكن توجيهها نحو البناء الوطني، فالمسألة ليست في الجيل بل في المشروع، المطلوب ليس محاكمة الشباب، بل نقد الخطاب الذي يتعامل معهم كمنتج غربي جاهز، وإعادة دمجهم في معركة النهضة والاستقلال والعدالة.
إن استيراد المفاهيم لا يصنع نهضة، بل يكرس التبعية الفكرية، والرد الحقيقي على "جيل زد" ليس رفضه، بل تحريره من هذا القيد، ليصبح جيلاً واعيًا بجذوره وانتمائه، قادراً على تحويل الغضب إلى فعل وطني منظم، فالأمم لا تقاس بأعمار أبنائها، بل بقدرتها على تحويل الطاقة الشبابية إلى مشروع للحرية والسيادة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد