لماذا ساد القبح في حياتنا… وكيف نستعيد الجمال ؟
في السنوات الأخيرة، أصبح القبح ضيفًا ثقيلًا يفرض نفسه على تفاصيل حياتنا اليومية، حتى كدنا نعتاده. قبحٌ في الكلمة، وقبحٌ في التعامل، وقبحٌ في الأخلاق، وقبحٌ في الذوق العام، وقبحٌ في الشارع واللغة والحضور الإنساني.
كأن البشرية – رغم التقدم الهائل – فقدت نعمة البساطة، وهدوء الروح، ورقّة القلب، وطهارة اللسان.
نسمع كلمات قاسية تُقال بلا حساب…نشاهد سلوكًا فظًا يُمارس بلا خجل…نرى مشاهد تنفير لا تمتّ لقيمنا ولا حضارتنا بصلة…
يُستبدل الحياء بالسخرية… والرفق بالخشونة… والصدق بالمواربة… والرحمة بالجفاء…
حتى أصبح البعض يفتخر بغلاظته، كأن القسوة بطولة، أو الإساءة شجاعة، أو الانفلات حرية.
هذا القبح لم يعد مجرد أخطاء فردية، بل «مزاجًا عامًا» يهدد الذوق الجمعي، ويعكّر صفو العلاقات، ويجعل النفوس متوترة مضطربة.
ومع كل هذا، لا يزال في داخل كل إنسان مساحة تتوق للجمال…
جمال الكلمة، جمال التعامل، جمال الروح، جمال الحياة.
وهنا يأتي السؤال الكبير: كيف نعيد للجمال مكانه؟ وكيف نقهر هذا القبح الذي يحيط بنا؟
الإجابة تبدأ من جوهر الإسلام وروح الإنسان…تبدأ من فكرة بسيطة عبّر عنها النبي ﷺ:«إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمال» (رواه مسلم).
هذه الجملة القصيرة ليست وصفًا لله فقط… بل منهج حياة يطلب من الإنسان أن يكون رسولًا للجمال، صانعًا له، حارسًا لقيمه.
وفي هذا المقال، نفتح بابًا لإعادة اكتشاف الجمال… جمال الدين، وجمال الإنسان، وجمال العلاقات، وجمال المعنى… وكيف نهزم القبح في كل صوره.
أولًا: لماذا يغزو القبح حياتنا؟
----------------------------------------
المجتمعات لا تتغير فجأة… والقبح لا يسيطر من فراغ. هناك أسباب عميقة، من أهمها:
١- انكسار لغة الحوار وتحول الكلمة إلى سلاح
الكلمة التي كانت تُداوي وتُطمئن، أصبحت اليوم تُستخدم للتهكم، والتحقير، وكسر النفوس.كأننا نسينا قول الله:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}ونسينا وصية النبي ﷺ:
«الكلمة الطيبة صدقة».
صار بعض الناس يظن أن التجريح «صراحة»، وأن الفظاظة «قوة»، وأن الصوت العالي «منطق».
٢- تراجع التربية الجمالية في البيوت...
نربي أبناءنا على التفوق الدراسي…
لكن هل نربيهم على جمال الكلمة؟ جمال النظافة؟ جمال الذوق؟ جمال احترام الآخر؟
أغفلنا “تهذيب الروح” وركّزنا على “مهارات العقل”، فكبرت أجيالٌ تعرف التكنولوجيا أكثر مما تعرف الرفق.
٣- ضغط الحياة وتسارعها...
تراكم الهموم والمشاغل يقلل صبر الإنسان، ويزيد عصبيته، ويحول أبسط موقف إلى صدام. القبح غالبًا ليس طبعًا… بل نتيجة احتراق داخلي.
٤- فقدان القدوة الجميلة
حين تضعف القدوات الأخلاقية، ينتشر القبح تلقائيًا… فالأخلاق تُكتسب بالمشاهدة قبل التعليم.
٥- تأثير الإعلام والسوشيال ميديا
بعض المحتوى يصنع من السخرية «موضة»، ومن الفوضى «ترندًا»، ومن الاستفزاز «جذبًا»، ومن الانفلات «حرية».إنه قبح مُعلّب يُعاد تدويره كل يوم.
ومهما تعددت الأسباب… يبقى العلاج في العود إلى الجمال الذى جاءت به الشرائع السماوية والذي جاء به الإسلام.
ثانيًا: الجمال في الإسلام… قيمة أصيلة لا زينة جانبية
----------------------------------------
الإسلام لم ينشغل فقط بالعبادات… بل انشغل بجمالها، وبجمال الإنسان، وجمال المجتمع.
من يتأمل النصوص الشرعية يجد أن الجمال جزء من الإيمان ذاته.
١- الجمال في الخِلقة: تكريم إلهي
قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.خلقه الله في أكمل هيئة وأجمل صورة، لا في «صورة مقبولة» فقط… بل «أحسن تقويم»...ولكن الجمال الظاهر لا يكتمل بدون جمال الباطن.
فالوجه الجميل لا قيمة له إن حمل قلبًا قاسيًا، والهيئة الحسنة لا تُغني عن روح كئيبة.
٢- التجمّل… عبادة حين تصحّ النية
جاء رجل للنبي ﷺ فقال: يحب أحدنا أن يكون ثوبه حسنًا؟
فقال ﷺ:«الكِبر بطر الحق وغمط الناس… وإن الله جميل يحب الجمال».أي أن الجمال ليس تكبرًا… بل احترام للنعمة، وتناغم مع المجتمع، وعناية بنظافة البدن والملبس.التجمّل مطلوب… بشرط ألا يتحوّل إلى استعلاء أو إسراف.
٣- جمال الأخلاق مقدم على جمال الصورة
في دعاء النبي ﷺ:«اللهم كما حسّنت خَلقي فحسّن خُلقي».
هذا التوازن الإلهي بين الخلق والخُلُق هو مفتاح الجمال الحقيقي.
ثالثًا: الجمال الذي نحتاجه… صور ومعانٍ
----------------------------------------
الجمال في الإسلام ليس لونًا واحدًا… بل لوحة واسعة تمتد من الكلمة إلى السلوك، ومن العلاقات إلى المواقف الصعبة.
١- جمال الكلمة: دواء القلوب
الكلمة الطيبة تشفي…
الكلمة الطيبة تصلح خلافًا…
الكلمة الطيبة تمسح حزنًا…
وقال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة».
أما الكلمة الجارحة فتكسر، وتحرق، وتترك أثرًا لا يُداوى بسهولة.
وقد مرّ سيدنا عيسى على قوم شتموه… فقال لهم خيرًا، فلما سُئل: كيف تقول خيرًا وهم يشتمون؟
قال: «كلٌّ يُنفق مما عنده».
فمن امتلأ جمالًا… لا يخرج منه إلا الجمال.
٢- جمال الخُلق: هندسة الروح
قال ﷺ:«أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا».
فجمال الخُلق ليس مجاملة… بل عبادة.
هو:الحِلم عند الغضب والعفو عند القدرة والصبر عند البلاء والشكر عند النعمة والرفق عند النصيحة..
هذا الجمال يبقى بعد موت الإنسان… أما جمال الشكل فيبلى.
٣- جمال التعامل… سر انتشار الإسلام
لم ينتشر الإسلام في إندونيسيا وماليزيا والصين والهند بالجيوش…بل بجمال التعامل: صدق التجار… أمانتهم… ابتسامتهم… رفقهم… رحمتهم.
أحب الناس أخلاق المسلمين… فدخلوا في دينهم.
٤- جمال العلاقات: صبرٌ جميل، وهجرٌ جميل، وسراحٌ جميل..
الله تعالى ربط العلاقات الاجتماعية بالجمال: يقول تعالى {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} ويقول {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وقوله تعالى {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
أي صبر بلا شكوى…هجر بلا تجريح…طلاق بلا ظلم.
٥- جمال الاختلاف
الإمام الشافعي يقول:«ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُسدّدويُوفّق…»
هذا جمال الاختلاف… لا تعصب، ولا غضب، ولا كراهية
رابعًا: كيف نحاصر القبح ونصنع مجتمعًا يرى الجمال؟
الجمال يحتاج إلى بصيرة… بينما القبح لا يحتاج سوى غفلة.
وحتى نعيد الجمال إلى حياتنا، يمكن أن نتخذ عدة خطوات منها :
١- إعادة اكتشاف نعمة الشكر
الشاكر يرى الجمال في التفاصيل…
أما الطماع فلا يرى إلا النقص.
قال ﷺ:«من لم يشكر الناس لم يشكر الله».الشكر رؤية… وليس لفظًا.
٢- إحياء ثقافة الرفق
قال ﷺ:«ما كان الرفق في شيء إلا زانه».الرفق يجمّل النفوس، والقرارات، والأسر، والعمل، حتى النصيحة إذا جاءت برفق تدخل القلوب بلا استئذان.
٣- تربية الأبناء على الجمال قبل العلم..
علمهم جمال الاحترام، جمال الكلمة، جمال العطاء، جمال الاختلاف…فالروح الجميلة تصنع إنسانًا جميلًا مهما كانت شهاداته.
٤- إعادة الاعتبار لقيمة «إماطة الأذى»
ليست مجرد صدقة… بل صناعة منظر جميل للناس، ونشر ذوق عام راقٍ.
٥- نصرة العدل لأنه أجمل القيم
العدل جمال…والظلم قبح مهما كانت الظروف.المجتمع العادل جميل حتى لو فقير…والمجتمع الظالم قبيح حتى لو غني.
ختامًا:
حين يتجمّل القلب… ينهزم القبح
----------------------------------------
إذا أردت أن ترى العالم جميلًا… فلا تغيّر العالم، بل غيّر قلبك.
ابدأ من داخلك:
من نيتك…من كلمتك…من تعاملاتك…من رؤيتك للناس.
الجمال حين يسكن القلب… يفيض على كل شيء: البيت، العمل،..العلاقات، المجتمع.
وهكذا أراد الله للمؤمن:
أن يكون مصدر جمال… لا مصدر قبح.أن يُهدّئ النفوس… لا يثيرها.
أن يرقق القلوب… لا يقسو عليها.
اللهم يا جميل، يا من خلقتنا في أحسن تقويم…جمّل قلوبنا بالإيمان، وأخلاقنا بالإحسان، وألسنتنا بالقول الحسن…واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر…وارزقنا من الجمال ما يرضيك عنا في الدنيا والآخرة.
اللهم آمين.
أ.د / إبراهيم حسيني درويش
٢٠ نوفمبر ٢٠٢٥