التغافل حكمة النبلاء وعبادة العظماء، وخلق من أخلاق الأنبياء، التغافل سلام القلوب وهدوء النفوس, التغافل: ليس ضعفا ولا عجزا ولا تنازلا، بل هو سمو في الحكمة، هو أن تمتلك القدرة على الرد ثم تختار الصمت, وأن ترى الزلة بعين الرحمة لا بعين الانتقام, {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، فكظم الغيظ بداية التغافل, والعفو تمامه والإحسان ذروته، فهي درجات ثلاث، لا يبلغها إلا من زكى نفسه وهذب قلبه.
ستكتشف كذب الكاذبين وخداع المخادعين وتلون الأنانيين وكره الكارهين وإساءة المسيئين واعتداء المعتدين, وهمز ولمز الغيورين, فحينها تسأل نفسك هل أواجه؟ هل أتكلم؟ هل آخذ حقي بلساني أو ذراعي, ولكن المواجهة هنا لن تصلح من حالهم ولن تمنع أذاهم, بل يزداد الطين بلة, ويتحول الكُره والعداء من السر إلى العلانية, وتشتعل نار العداوة اوالبغضاء أكثر وأكثر، ولن يسلم قلبك ولن ترتاح نفسك حتى لو انتصرت في هذه المواجهات والمعارك؛ ولهذ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لم يتغافل تنغصت عيشته.
والعلاج الأنجح هو التحلي بخلق التغافل الذي يطفئ شراً كثيراً", قال الإمام أحمد بن حنبل: تسعة أعشار العافية في التغافل، ثم قال بل العافية كلها في التغافل، وقيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: الفطن المتغافل"، نعم العاقل من يترك النار تأكل نفسها وتخمد وحدها, والأولى والأحرى أن نمتثل للمثل الذي يقول: طنش تعش تنتعش.
ولقد ضرب لنا القرآن الكريم المثل الرائع في التغاضي والتغافل, حينما اتُّهم يوسف عليه السلام بالسرقة, وقال أخوته:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}[يوسف: 77], فلم يصارحهم ولم يواجههم الصديق عليه السلام, بل تغافل عن كذبهم وسكت عن افترائهم, وسلم قلبه وارتاحت نفسه وخلد القرآن موقفه.
وكان بعض المشركين من قريش لا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه وإنما (مُذَمَّم) على وزن (محمد)، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مُذَمَّمًا, ويلعنون مُذَمَّمًا, وأنا محمد" وقال جعفر الصادق رحمه الله: " عظموا أقدراكم بالتغافل", ولا تهينوها بالمواجهة، ولا تُذلوها بالمصارحة واللوم والعتاب الكثير.
لا تحزن أيها الإنسان ولا تلتفت لحاقد أو حاسد فإنما هي سهام الشيطان الرجيم لسرقة قلبك، وتكدير صفائه، وتعطيلك وتضييع أوقاتك وإشغالك عن الوصول لمرضات الله، كما قال تعالى عن هذا الفخ الشيطاني: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم: 83]، ودفعهم دفعا على الصالحين الطيبين.
وأخيراً التغافل محاولة لتحييد الجاهلين واتقاء شرهم وإسكات عدوانهم، بل حثنا القرآن الكريم على كسب قلوبهم, واستمالة ودهم من خلال الإحسان إليهم، كما قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34], وفي ذلك يقول أحد الحكماء لابنه: يابني إن علاقتنا مع الناس تدوم وتستمر بالتغاضي، وتزداد انسجاما بالتراضي، لكنها تمرض بالتدقيق، وتموت وتنتهي بالتحقيق. ولقد مدحت المرأة العربية زوجها بقولها: زوجي إذا دخل فهد، أي يتغاضى كثيرا ويتغافل طويلاً, وليس كحال بعض الناس يدقق في كل شيء ويحقق في كل صغير وكبير، حتى يتعب ويصاب بأمراض السكري والضغط ويُتْعِب من حوله.