شعور دافئ حينما يدعوا المؤمن لنفسه بالخير فلا يصعد وحده إلى السماء بل يصطحب أخاه معه في الدعاء، وإحساس سعيد حينما يطلب المؤمن من ربه أن يشفي أخاه أو يعافيه أو يرزقه أو يرفع عنه بلائه وكربه، وعاطفة فرحانة حينما يشعر الإنسان بأخيه الإنسان، يحبه ويسأل عنه ويحتويه ويهتم به، إنه لشعور عظيم أن يدعوا الإنسان لأخيه الإنسان بظهر الغيب، من حيث لا يشعر ولا يدري أخوه، حيث لا يطلع على هذا العمل السري إلا الله تعالى مما يدل على صدق محبة والإخلاص لله تعالى، ولقد حثنا رسول الإسلام على مثل هذه الإيمانات الراقية فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك الموكل: آمين ولك بمثله".
ولقد ترجم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوصية إلى تطبيق عملي، فدعا لكثيرٍ من أصحابه وأحبابه كما دعا لأنس بن مالك، وقال: "للهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته"، ودعا لابن عباس، وقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، ودعا للأنصار وقال: "رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، ودعا للمهاجرين، ودعا للأمة كلها الأحياء والأموات، من رآهم ومَن لم يرهم، حيث أمره ربه بالاستغفار لهم، فقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: 19]، فاستغفر لهم وحث غيره على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة".
وهذا منهج الأنبياء جميعا من قبله، حيث سجل القرآن الكريم دعواتهم لغيرهم، فهذا نوح عليه السلام دعا وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[نوح: 28]، ودعا إبراهيم عليه السلام وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم: 41]، ودعا موسى عليه السلام لأخيه هارون وقال: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأعراف: 151].
ولقد استنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابى الذي دعا وقال: اللهم ارحمنى ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، ثم قال له: "لقد حجرت واسعاً"، فلا ينبغي للمسلم أن يطلب الرحمة والمغفرة لنفسه فحسب فإن الله تعالي واسع الرحمة وواسع المغفرة.
وعلى ذات المنهج الرباني سار الصالحون والصادقون، فقد ذكر ابن الجوزي أن هَرِم بنَ حَيَّان زَارَ التابعيَّ الجليل أُوَيْسًا القَرَنِيَّ، فقال هَرِم: يا أُوَيْسُ، واصلْنا بالزيارة، فقال أويس: "قد وصلتك بما هو أنفع لك من الزيارة واللقاء؛ الدعاء بظهر الغيب"، وذكر الخطيب في تاريخه أن أبا حمدون كان له صحيفة فيها ثلاثمائة نفس من أصحابه، وكان يدعو لهم كل ليلة ويُسمِّيهم، فنام عنهم ليلة ولم يدعُ لهم، فقيل له في النوم: يا أبا حمدون، لِم لَم تُسرِج مصابيحك؟ فقام ودعا لهم جميعاً.
فرابطة الإيمان بين المؤمنين لا تتأثر بتطاول الزمان، وتغير المكان؛ فالمؤمنون ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض بِظَهْر الغَيب، فلما ذكر الله تعالى السابقين من المهاجرين والأنصار، أثنى على من جاء بعدهم بدعائهم للمؤمنين الغائبين عنهم حيث قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}[الحشر: 10].