خطت ألمانيا خطوة تاريخية في عالم الصناعة النظيفة حيث نجحت في إنتاج صلب نظيف دون الاعتماد على الفحم للمرة الأولى في تاريخ الصناعة العالمية، ففي تجربة رائدة، تمكنت إحدى المؤسسات الصناعية الكبرى من تشغيل فرن يعتمد على الهيدروجين بدلا من الفحم التقليدي، وهذا يتيح إنتاج فولاذ يتميز بقوة ومتانة تضاهي الفولاذ المصنع بالطرق التقليدية، ولكن يحقق انخفاضا حادا في الانبعاثات؛ حيث يعتمد الإنتاج التقليدي للصلب على حرق الفحم لإزالة الأكسيد من خام الحديد، وهو ما يطلق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.
أما التقنية الألمانية الجديدة فتعتمد على اختزال الحديد مباشرة باستخدام الهيدروجين، ثم صهره في فرن قوس كهربائي، منتجا بخارا ماء فقط كمنتج ثانوي، فيتضاعف بذلك مستوى خفض الانبعاثات إلى ما يصل إلى نحو 95% مقارنة بطرق الإنتاج التقليدية.
وتشير المعطيات التقنية إلى أن الصلب الناتج يفي بمعايير القوة والصلابة المطلوبة في قطاع البناء، والمركبات، والصناعات الثقيلة، دون أي تراجع يذكر في الأداء.
ومن المعروف أن إنتاج يتسبب في نحو ثمانية بالمئة 8% من إجمالي الانبعاثات الكربونية العالمية، مما يجعل من نجاح ألمانيا نموذجا يحتذى في مجال تحويل الصناعة إلى مسار أكثر نظافة وكفاءة.
وتأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه الشحنات العالمية من المواد الثانوية المرتبطة بالطاقة البديلة زخما من الاستثمارات والسياسات الداعمة، مع تزايد الاهتمام بتقنيات الهيدروجين وتوليد الكهرباء من مصادر متجددة.
وتؤكد الحكومة الألمانية في إطار حزمة دعم صناعي أوسع أن التحول إلى صلب منخفض الكربون يتطلب مزيجا: من الابتكار التقني، والاستقرار التنظيمي، وتنظيم أسعار الطاقة المستدامة، وهو ما يتقوم الآن ألمانيا بتوفيره عبر حزمة دعم تمويلي، وتسهيلات تنظيمية لسلاسل الإمداد، والهياكل التحتية المرتبطة.
وفيما يخص الفترة الزمنية المطلوبة لتعميم هذه التقنيات، يأمل المطورون النجاح في خفض الانبعاثات بنحو 30% من إنتاج يبلغ نحو مليوني طن من الصلب بحلول عام 2027 وذلك كمرحلة أولى، ويكون ذلك باستخدام مكونات وتقنيات تشمل: محللاً كهربائياً هيدروجينيا بقدرة مئة ميغاواط، ومرافق اختزال مباشر، وفرن صهر قوسي كهربائي.
والهدف الاستراتيجي النهائي هو خفض الانبعاثات المرتبطة بمكونات الإنتاج بنحو تفوق 90%، وصولاً إلى إنتاج فولاذ صديق للبيئة على نطاق واسع.
وتظل الجدوى الاقتصادية مع ذلك مرتبطة بدعم مستمر لسلاسل توريد الهيدروجين، وتكاليف الكهرباء، إضافة إلى الاستقرار السياسي والتنظيمي، وهو ما تدفعه به سياسات حكومية وداعمة من قطاع الطاقة.
ومن المتوقع أن تشعل ألمانيا أضواءً جديدة في مسار التعاون الدولي نحو بنية صناعية خضراء، مع اهتمام متزايد من دول مثل الصين والهند والولايات المتحدة في استكشاف مسارات مماثلة لإنتاج صلب منخفض الكربون، وذلك مع ارتفاع الطلب العالمي على تقارير "البصمة الكربونية" في قطاع الإنشاءات والسيارات والبنى التحتية، يكتسب الصلب الأخضر مكانة مركزية في سلاسل التوريد العالمية.
ومع ذلك لا تزال تكلفة الهيدروجين الأخضر وأسعار الكهرباء من أبرز العوامل المؤثرة في جدوى النماذج القائمة على الهيدروجين، إضافة إلى حاجة المصانع إلى استثمارات هائلة في البنية التحتية.
كما تواجه بعض الشركات الكبرى صعوبات في تحويل خطوط الإنتاج القائمة، ما يحتم توسيع الدعم الحكومي وتوفير حوافز اقتصادية وسياسات استغلالية لتحفيز الانتقال على نطاق أوسع.
ويمكن القول أن "عصر المعدن النظيف" ليس حلماً بعيد المنال، بل مسار عملي يتجسد في دولة رائدة تطوّره اليوم ليكون معيارا عالميا.
وبينما تلاحظ تحديات اقتصادية وتنظيمية، و يبقى الأمل في أن يصير إنتاج الصلب منخفض الكربون معياراً عالمياً يمهّد الطريق لبنيات صناعية أنظف ومستقبل أكثر استدامة.