شيخ كبير بلغ الستين من عمره يقول: أوذيت كثيرا من أقربائي وأصهاري وأصحابي، وما في مرة من المرات آذيت أحدا أو اشتكيت رجلا منهم، فكانت النتيجة أن تفرغ قلبي لله رب العالمين، وفي هذا المعنى الراقي من الصفاء يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
لما عفوت ولم أحقد على أحد … أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيى عدوي عند رؤيته … لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه … كأنه قد ملا قلبي مسرات
وهذا الصفاء النفسي ما لا يريده الشيطان الرجيم أبداً، بل يريد أن يشغل الإنسان ويقطع قلبه عن رب العالمين بالمشاكل مع فلان أو العداوة مع علان قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم: 83]، أي تدفعهم نحو قلوب المؤمنين دفعا قويا لسرقة قلوبهم، وقال تعالى عن مقصود الشيطان الأعظم: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة: 91]، ولئن عجز الشيطان أن يعبده الناس فما عجز أن يلقي بينهم نار العداوة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش والتحريض بينهم".
وعلى العكس تماماً فتصفية القلوب وإطفاء نار الحروب هو من أجل القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصدقة والصلاة والصوم؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين".
ويعلمنا القرآن الكريم كيف نقلب العداوة لمحبة؟ وأن ندفع شر المسيء بالإحسان إليه فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34]، فإلم يتحقق الصفاء والمحبة فالابتعاد عن المشاكل وأهلها وأسبابها هو الحل الأخير لها؛ ولهذا لما غارت السيدة سارة من السيدة هاجر وولدها أمر الله إبراهيم الخليل أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكان مكة المكرمة بعيدا عن الشام التي بها السيدة سارة؛ للفصل بين هاتين السيدتين الكريمتين؛ لأن في القرب بينهما إزكاء للبغضاء وإشعال للعداوة.
وأكثر من ذلك أباح الإسلام الطلاق بين الزوجين إذا استحالت المعيشة بينهما بمودة ورحمة وصفاء ونقاء، وتكدرت العلاقة بينهما؛ لأنه في ظرف الطلاق النكد وجو البغضاء التعيس لن يستطيع المشحون قلبه الخشوع في الصلاة ولا الطاعة ولا العبادة، بل ربما ترك الصلاة والطاعة والعبادة أصلا؛ فيتحقق للشيطان ما يريد.
والبغضاء وحدها كفيلة أن تمسح جو الإيمان والفرح والسعادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا"، فالجنة طيبة للطيبين.
فعلينا بتصفير المشاكل وإنهائها أو على الأقل تقليلها، حتى ولو قدم الإنسان بعض التنازلات الدنيوية، فإنه سيربح قلبه ومغفرة ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا! أنظروا هذين حتى يصطلحا".