لما أتم الخليل عليه السلام بناء الكعبة أمره الله تعالى بالنداء في الناس بالحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج: 27], فقال يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: " أذِّن وعليّ البلاغ", فعليك أيها الخليل النداء والدعوة والإرشاد, وعلى الله الهداية وفتح القلوب وشرح الصدور.
قال الخليل يا رب كيف أقول؟ قال: " قل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيق", فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟ ويرددون وينشدون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك), وهذه التلبية ليست نشيداً ولا أغنية بل كلمات مباركات يتفاعل معها الكون بأسره، ويتجاوب معها الشجر والمدر والحجر، فيلبي مع المُلَبِّي البحر وجسد الباخرة والباص والبر والجو والطائرة, فيصبح هذا المُلَبِّي مركزاً الكون، كما قال ــ صلى الله عليه وسلم ــ : " مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى، مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ، مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا".
فإن لم يقدر الإنسان على الحج ولم يدرك التلبية القولية فليحقق التلبية العملية وهي الاستجابة لأمر الله تبارك وتعالى ولأمر رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ؛ لأن التلبية (لبيك اللهم لبيك)معناها أَجَبْتُك يا رب إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ إلى ما لا نهاية, فاذا أمرتني سارعت لأمرك وإذا نهيتني عن أمر انتهيت مباشرة, فالتلبية العملية بمعنى دوام الاستجابة لله ولشرعه, وقد وعد الله تعالى أهل الاستجابة بدوام الزيادة, فقال تعالى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }[الشورى: 26], فالزيادة على قدر الاستجابة.
والاستجابة والتلبية هي الحياة الحقيقية في الدنيا, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24], وفي الآخرة, كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}[الرعد: 18].
والتلبية العملية أيضاً بمعنى التقوى التي هي مقصود الحج وغايته, والتي قال الله تعالى فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197], وهناك من يحج مرات ومرات ولا يتقي الله ولا يخاف الله ولا يراقب الله, فحجه غير مقبول؛ لأنه لم يحقق مقصود الحج من التقوى والاستجابة والتلبية العملية, وهناك من حقق هذه المقاصد من الحج دون أن يحج أو يرى الكعبة أو يقف بعرفة, وهو عند الله من المقبولين, كما قال رب العالمين: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27], وحال الواحد منهم كما يقول الشاعر:
أنا لستُ في الحُجّاجِ يا ربّ الورى لكنّ قلبِي بالمحبّةِ كبّرا
لبّيكَ ما نبَضَ الفؤادُ و ما دعا داعٍ وما دمْعٌ بعينٍ قد جرى
لبّيكَ أعلِنُها بكُلٍّ تذَلُّلٍ لبيكَ ما امتلأتْ بها أمُّ القُرى