خلق الله تعالى الأشياء كلها في نظام بديع وترتيب دقيق, وجعل بينها تفاوتا واختلافا؛ ليزيد من جمالها وحسنها, وجعل بينها مسافات للحفاظ على نفعها واستدامتها, فخلق الله الشمس والقمر والأرض والنجوم والكواكب في المجموعة الشمسية فلا يقترب كوكب من آخر ولا يبتعد كوكب عن الآخر, {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33], والأرض التي نعيش عليها لو خرجت عن مسارها الكوني واقتربت من الشمس قليلا؛ لاحترقنا, ولو ابتعدت عن الشمس قليلا؛ لتجمدنا, {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}[يس: 40], هذا في خلق الله وتكوينه الذي لا يخرج عنه مخلوق, أما في شَرْعِه ودِينه, فقد حثنا الله تعالى على الالتزام بأمره وشرعه, والحفاظ على المسافات بين الناس؛ بلا اعتداء على أحد ولا جفاء لأحد, فلا نبتعد عن الوالدين والأقارب والأهل والأزواج والأولاد فنقطعهم ونعقهم, ولا نقترب منهم اقترابا نتطلع به على أسرارهم ونفتش في الصناديق المغلقة فربما اكتشفنا ما لا يسرنا.
ولقد اهتم الإسلام بهذه المسافات أهمية خاصة وراعى المسافات بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه في حجراته ومع أزواجه فنزلت الآيات تنهى عن ندائه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وتنهاهم أيضاً عن البقاء في بيوته صلى الله عليه وسلم بعد الطعام للسَّمر والسَّهر واستئناس الحديث في وقت غير مناسب، وكانت هذه التصرفات يمارسها البعض بعفوية ودون اعتبار للمسافات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه, ويستحي أن يفصح عما في وجدانه, فنزل القرآن الكريم يتحدث عن مشاعر الحَرج النبوي التي تسببها إهمال المسافات مع الجناب النبوي الشريف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي هذه المسافات زمانا ومكان وحركة وصوتا فكان صلى الله عله سلم إذا دخل على أهله, يسلم سلاما يسمعه اليقظان, ولا يوقظ النائم.
ومراعاة هذه المسافات وفمهما هي في الحقيقة لغة تواصلية مثل الصوت والحركة والإشارة, ويمكن من خلالها التعبير بلغة المسافات عن الغضب والرفض أو السرور والقبول.
فالجمال في احترام المسافات وحتى يبقى الجميل في عينيك جميلاً لا تقترب منه كثيراً؛ فيملك ويضجر منك بكثرة الاتصالات والرسائل, ولا تبتعد عنه طويلا فينساك ويبحث عن بديل لك.
في مجال التصوير والدراما الصورة تكون أجمل إذا كانت الكاميرا على مسافة مناسبة لا بالبعيدة ولا بالقريبة.
وفي الكتابة والمراسلات الكتابة تكون أجمل إذا كانت المسافة مناسبة بين الكلمات؛ حتى يفهم الآخرون ما نكتبه.
وفي السفر والترحال السفر أجمل وأسلم إذا راعينا المسافات المناسبة بين السيارات.
وفي المجال العاطفي بين الأزواج والأحباب, الحب ينموا وينبض به القلب إذا تركت له مسافة للنمو بلا اختناق, ويسقى بماء الود من الحين إلى الحين, تقول مستغانمي: "الحب هو ذكاء المسافة, لا تقترب كثيراً فتلغي اللهفة, ولا تبتعد طويلا فتُنسى وتُستبدل, وإنما يتغذى الحب بتناوب الوصل والبعاد, كتناوب التنفس بين شهيق وزفير؛ لتفرغ وتمتلئ مجددا رئتاه, وكلوح رخامي يحمله عمودان إن قربتهما كثيراً اختل التوازن وإن باعدتهما كثيراً هوى اللوح،إنه فن المسافة, الذي من خلاله نسعد بالحياة وتسعد بنا الحياة؛ فتصبح الحياة جميلة بنا ورائعة بمن حولنا.