يلجأ البسطاء من الشعب المصري والعديد من الشعوب العربية لما يطلق عليه الجلسات العرفية، لتسوية الخلافات داخل المجتمع الواحد كالخلافات داخل المسكن بين الأخوة أو الجيران، أو الشارع الواحد أو ما شابه من علاقات وتعد الجلسات العرفية أو ما يُطلق عليها أحيانًا "قعدة عرب"، وسيلة ناجحة ناجزة فى التعامل مع المشكلات والصراعات المجتمعية المدنية مثل الصراع حول قطعة أرض أو الصراعات المالية أو المشاجرات والمشاحنات وهنا يكون اللجوء إلى المجالس العرفية فى معالجتها فى ظل تباطؤ نظام العدالة الطبيعى, وفى ظل تأثير العرف القوى فى المناطق الواحدة, ونجاح تلك الآليات فى معالجة الكثير من المشكلات والنزاعات حيث يكون للمجالس العرفية قواعد راسخة وعقوبات محددة غالبًا ما تكون مالية وبعضها أكثر من ذلك ويكون لها أثر عظيم فى تسوية النزاع ورأب الصدع، قبل تفاقم الأمور.
ويعود انتشار ظاهرة المجالس العرفية بين أهالي المناطق الشعبية والقري والمدن بالدلتا والصعيد، إلى عدة أسباب مثل بطء الإجراءات الأمنية والقضاء، ولذلك يضطر المواطنون سواء الجانى أو المجنى عليه للجوء لمثل هذه الجلسات والابتعاد عن الطرق الرسمية والقانونية لإنهاء الخلافات بين العائلات طرفى النزاع, ففى المجالس العرفية المصرية لا مجال للطعن أو الرفض أو التأجيل فالحكم واجب النفاذ دون تأخير، وتحظى المجالس العرفية بمصداقية فى الكثير من المناطق الريفية والقبلية, فمن مزاياها المعايشة اليومية لبيئة الصراع، والتمتع بسلطة أخلاقية تنبع من توظيفها الروابط الاجتماعية المختلفة فى جهود تسوية النزاعات، والقدرة على الاحتواء المبكر للصراعات ومنع تصعيد الأزمات، إضافة إلى انتشار ثقافة الخوف لدى بعض المواطنين من الاقتراب من الشرطة والنيابة، كما أن المجالس العرفية لا تكلف أموالًا باهظة كالتى يطلبها المحامون لمباشرة قضاياهم.
وتبدأ قصة المجلس العرفي بكلمة تدخل «أهل الخير» حيث يقوم أحد أطراف النزاع بالذهاب إلي أحد الذين يشاركون في هذة الجلسات العرفية أو ما يُقلق عليهم "شيخ عرب"، طالبًأ منه تجميع لجنة محايدة للتحقيق والفصل في مشكلة ما، فيقوم شيخ العرب بالذهاب إلى طرفى المشكلة لتحديد موعد لحلها وذلك لنزع فتيل الصراع، مؤقتًا من خلال التوقيع على شرط يُسمي «العمار والمعاودة» ثم الاتفاق على اختيار المحكمين وراعى البيت "مُرجح الحكم"، وهنا يجب الإشارة أنه لابد وألا تتعارض القاعدة المعمول بها فى الحكم العُرفى مع نص تشريعى فى القانون أو الدستور، ويجب أن تكون تلك القاعدة القديمة مُستمرة وعامة وتنال احترام الأطراف المتنازعة وإلا أصبح الحكم العرفى مُخالفًا للنظام العام والدستور والقانون، وهو ما يجعله باطلًأ وغير صالح للتنفيذ.
وهناك شرط لعدم تعرض طرف لآخر منذ بدء الإحتكام للقضاء العرفي ويسمي «المعاودة» وهو مشروط بمبلغ مالى ضخم حتى لا يتعرض طرف لآخر خلال فترة محددة تتراوح بين أسبوع إلى شهر، ويوقع عليها كبير كل طرف كممثل عن كلٍ من طرفى النزاع، وفى تكوين الجلسات العرفية يكون هناك هيئة تحكيم وتكون عددًا فرديًا، تبدأ من القاضى الوحيد وتصل حتى ١٣ مُحكمًا، حيث يختار طرفا النزاع ما يرتضونه من محكمين، فيما يتفق الطرفان على اختيار راعى البيت أو ما يُسمى «مُرجح الحكم»، وقبل بدء الجلسة العرفية يطرح المحكمون والمُرجح الصُلح الأبيض على طرفى النزاع، وهو أن يعتذر الطرفان لبعضهما ويتصالحان -دون الدخول فى تفاصيل-، وفى حالة رفضهما لـ"الصلح الأبيض"، يتم تحرير محضر الجلسة العرفية، الذى يُثبت فيه التاريخ والحضور وما آل إليه النزاع بين الطرفين من أضرار وخسائر مادية أو فى الأرواح، لتبدأ بعدها مرحلة سرد الحجج وسماع الأطراف والشهود، وقد تمتد الجلسة لأيام، وبعد سماع الحُجج، وتسجيل أهمها فى محضر الجلسة، يدخل المحكمون والمُرجح لإجتماع منفردين، وهو ما يُطلق عليه الدخول إلى «المخلاوية»، وهى عبارة عن غرفة شبية بغرفة المداولة للمحكمة ولكنها هنا لهيئة التحكيم العرفي، وفي هذه الغرفة ربما تحتاج هيئة التحكيم لسماع الشهود، كُل على حدة مرة أخري، بعيدًا عن طرفى النزاع لتكون شهادتهم سرًا بعد أداء القسم، وبناءً على شهادة الشهود وسرد الحُجج يبدأ المحكمون فى النقاش معًا لمدة قد تصل إلى عدة ساعات حتى يخرج حكمًا عادلًا يُرضى جميع الأطراف.
وكل ما سردناه في تفصيل وشرح وتفنيد الجلسات والمحاكم العرفية يجعلها تبدو بالفعل ذات عدالة ناجزة بل وبالفعل إن صحت هذة الجلسات فإنها أسرع الحلول لوأد نار الفتن والمشاكل، خاصة أن هناك ٤ تخصصات متعارف عليهم للقضاء العرفى، وهى العِرض والعار الذى يحكم فى أمور النساء، و«منقع الدم» الذى يفصل فى الخلافات التى أدت إلى وقوع ضحايا، والأرض والمال، فيما يكون التخصص الرابع من القضاء العرفى متمثلًا فى قضايا الجروح والإصابات، وأغلب المحكمين العرفيين متخصصين فى الفصل فى الأنواع الأربعة، وهذة المشاكل الأربع هم أهم المشاكل التي تواجه المجتمعات الريفية وأحيانًا الحديثة والتحكم فيها عن طريق كبار القري والمراكز والمحافظات يساعد علي إختفائها نهائيًا ويعاقب من يقوم بها عقابًا رادعًأ يجعله وأهله غير قادرين علي الإقتراب منها مرة أخري حال ثبوت فعلته، كما أن إيصالات الأمانة، على بياض أو بمبالع مالية ضخمة، تكون هى حجر الأساس الذى تعتمد عليه المجالس العرفية لتنفيذ أحكامها، حيث إنه فى حالة إخلال أحد الأطراف بتنفيذ الحكم يتم تحرير محضر بتلك الإيصالات واتخاذ دورتها فى القضاء، لتنتهى بالسجن ٧ أعوام على الأقل، للطرف الرافض لتنفيذ الحكم، مما يوحي بأن تنفيذ حكم القضاء العرفي أكيد ونافذ.
ويبقي أن نوضح، أن اختيار المحكمين والمُرجح يستند إلى مجموعة شروط مُتعارف عليها على رأسها؛ الرزانة والصلاحية والكفاءة والدين، فضلًا عن كونه نظيف اليد والقلب، فلابد أن يكون أهل أمانة، لأنه يؤتمن على أعراض الناس وأموالهم وأماناتهم، وأيضًا أن يكون علي علم بأحكام العرض والدم والجروح والمال، والدين الإسلامي إهتم بالقضاء وعناه عناية عظيمة حين وصي القرآن الكريم بالعدل بين الناس وحذر من الجور واتباع الهوى حين قال تعالي: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ”، وعلينا أن نبتعد عن أولئك المُحكمين أو المصلحين غير المشهود لهم بالصلاح، حيث وُجد في الآونة الأخيرة بين الئك القضاة العرفين السارق وشارب الخمر، وهؤلاء يتسببون فى أحكام لا تليق بموروث الحكم العرفى، لأن بعضهم قد يسعى إلى المقابل المادى بالرغم من أن الجلسات العرفية دون مُقابل، وهي دائمًا لله وبالله ولا يمكن أن يتواجد بها من لا يحرص علي الله في كل كبيرة وصغيرة وإلا سيضيع الحق بينهم، وتلحقهم جميعًا لعنة الله كقول الرسول الكريم"لعن الله قوم ضاع الحق بينهم"، فالقضاء قبس من نور الله، وملاذ المظلومين، ومأمن الخائفين، وسياج الحريات، وسيف الحق الذي يبتر كل يد تمتد بالاعتداء على حريات الآخرين ومنتهى الخائفين وزورق نجاة الضعفاء فإذا فسد قضاء أمة وأصبح "حاميها حراميها" فلمن يشتكي المظلوم ؟!!، وكيف إذا آوى المظلوم إلى ما حَسبه رُكْنًا يحتمي به فوجده سكِّينًا مطعونًا في ظهره وشوكة في حلقه؟!! فمرارة خيبة الأمل أشد إيلامًا من مرارة الظلم، فيا معشر المشاركين والمشرفين والداعين للقضاء العرفي إياكم ثم إياكم ودعوة المظلم.
ولابد من توظيف الآليات العرفية كوسيلة للمساهمة فى تحقيق التماسك المجتمعى وأن تكون عاملًا مكملًا للقانون وليس بديلًا عنه كقضاء موازٍ للقضاء الطبيعى, من خلال مساهمة المجالس العرفية فى تبريد الصراع وإزالة مسبباته، فوجود آليات اجتماعية فاعلة على النطاقين المحلي والقومي تساعد في تطويق النزاعات والاعتداءات ونزع فتيلها مهمة ومطلوبة، لكن في جميع الأحوال تبقى هذه الأشكال متجاورة مع وسائل التدخلات القانونية التي يتمتع بها المواطنون ومن واجب الدولة أن تحرص على تطبيقها، وضمان توفرها، وحماية من يلجأ إليها من أى عدوان على حقوقه، ورغم أن للجلسات العرفية دورًا مؤثرًا لتهدئة الاحتقان في عدد من الحالات، ووضعت حدّا لتفاقم وإنتشار الخصومات خاصة الدموية منها، بل وظهر كبار هذه الجلسات في مواقف كثيرة بمظهر الأبطال وهم يخمدون نار فتنة كبيرة كادت أن تعصف بالمجتمع وتزلزل أركانه -خاصة إذا ما كانت مشاكل يدخل فيها حالات تمس الشرف وما شابه-، ولكن مع مرور الوقت تحولت بعض هذه الجلسات إلى ما يشبه النظام القضائي الذي يصارع نظام العدالة الرسمي، وأصبح الصلح العرفي بوابة للهروب
من تنفيذ القانون، ذلك لما تتضمنه هذه الجلسات من فرض شروط والتي وصلت في بعض الأحيان إلى النصّ ِ صراحةً على عقوبات لمن يستخدم حقه الدستوري والقانوني في اللجوء إلى القضاء لجبر الضرر. وللأسف اشترك بعض القائمين على منظومة العدالة في هذا المسلك بعدم تطبيق القانون والقبول بمحاضر الصلح العرفي دون النظر في خطورة الجرائم المرتكبة،
َ التي وصلت إلى القتل وحرق ونهب الممتلكات العامة والخاصة وحيازة الأسلحة النارية والتهجير وغيرها من الأفعال المُجرمة قانونًا، لذلك علي القضاء العرف أن ينتهي عند حد معين وأن يتنحي جانبًا حينما يصل الأمر علي الجور علي حقوق الآخرين بجرائم وأن تقوم تلك المجالس بتقديم المذنب إلي الجهات القانونية حال عدم رده كامل الحقوق لأصحابها وإلزامه بتقديم نفسه للقانون حال فشله في رد المظلمة خاصة إن تعلق الأمر بالدم وذلك درءًا للفتن.