كان النهار ينتصف فى ذلك اليوم و جميع فلاحى قريتنا فى الحقول يطاردون اخر لوزات ممكنة من محصول القطن
الجميع فى حقول القطن لجمع أخر شىء من المحصول بعد ان شارف الموسم على الانتهاء
لم أكن قد أكملت العاشرة بعد.. الدراسة معطلة و التلاميذ مع اهاليهم فى الحقول
فجاء و جدنا السماء قد ازدحمت بالطائرات التى تصدر أصواتا مزعجة خاصة و انها تطير على ارتفاعات منخفضة مما يخرق حواجز الصوت
فى هذ اليوم - الذى صادف 14 اكتوبر - كانت منطقة شمال الدلتا على موعد مع إحدى معارك القوات الجوية الكبرى و التى تضمها صفحات التاريخ العسكرى للعالم اجمع
المهم
لحظات و شاهدنا طائرة مشتعلة فى الجو بعد ان طاردها صاروخ و أصابها
و فجأة ترك الجميع كل ما فى ايديهم و خرجنا نجرى فى إتجاه الطائرة التى تحترق فى الجو
الجميع يجرى و تجمعت أشتاتنا على الطريق الرئيسى الذى يربط بسيون بكفر الشيخ، و إمتلأ الطريق عن اخره بالرجال و الأطفال و النساء الذين يريدون المشاركة فى الحرب التى يتابعون اخبارها عبر الراديو و رسائل الجبهة التى تأتى من ابناءهم المقاتلين
الكل يريد أن ينال شرف المشاركة بالوصول إلى مكان سقوط الطائرة دون ان يعرف ماذا سيفعل هناك ، او حتى هل يستطيع الوصول لمبتغاه أم لا ؟؟
ظللت اجرى مع الجموع حتى وصلت إلى نقطة على الطريق و فقدت بعدها القدرة على الجرى او حتى المشى ، و تبخر املى فى الوصول إلى مكان سقوط الطائرة و القبض على الطيار
جلست أسفل شجرة التين البنغالى التى كانت تفترش مساحة واسعة على تقاطع الطريق مع مصرف "نشرت "عند عزبة يوسف بيه لأستريح قليلا
لقد جريت كثيراً و الطائرة المحترقة فى الجو تغرينى بقربها منى و بأمل الوصول لها، و لكن هيهات كان الأمر بالنسبة لطفل صغير محض سراب طاردته لمسافة أربعة كيلومترات او يزيد
عدت أدراجى يقتلنى الحزن و اليأس لعدم الوصول للطيار الإسرائيلى قبل غيرى
وصلت المنزل قرب نهاية اليوم سيراً على الأقدام و قد نال منى الجوع و العطش
و فى المساء لم يكن للناس فى قريتنا من حديث غير الطائرة التى احترقت فى سماء الدلتا و شاهدها الجميع
و انتشرت القصص الخيالية بين رفاقى من الأطفال عن المشرف الزراعى الذى نجح فى الوصول إلى مكان سقوط الطائرة مستعينا بدراجته البخارية "الجيب"، و كيف استطاع توجيه لكمة قوية للطيار مكنته من السيطرة عليه قبل وصول الشرطة العسكرية لاستلامه
و كذلك عن عاطف الذى استطاع ان يحصل على جناح الطائرة و العودة به إلى بيته
و هكذا امضينا الوقت فى نسج القصص الخيالية عن الواقعة و نحن فرحين بإسقاط الطائرة المهاجمة
بالطبع لم يكن يدور بخيالى الصغير أو يصل لعلمى أن ما شاهدناه لم يكن سوى لقطة واحدة صغيرة من معركة كبيرة حملت اسم "معركة المنصورة الجوية" ..
تلك المعركة التى شهدت ملحمة كبرى سطرها طيارو مصر فى مواجهة هجمة صهيونية شرسة استهدفت اخراج قاعدة المنصورة الجوية و قاعدة طنطا الجوية و قاعدة الصالحية من المعركة و تدميرها، فتصدت قواتنا الجوية للطيران المعادى و لقنته درساً بليغاً
كانت إسرائيل قد اطلقت غارة كبيرة الحجم تتكون من 165 طائرة مقاتلة من نوع إف-4 فانتوم الثانية وإيه-4 سكاي هوك (A-4 Skyhawks) لتدمير قاعدة المنصورة الجوية (يطلق عليها أيضاً البقلية أو قاعدة شاوة الجوية). استمرت المعركة 53 دقيقة. استناداً إلى المصادر المصرية اشتبكت في تلك المعركة 180 طائرة مقاتلة في آن واحد، معظمها تابع لإسرائيل
كان اللواء أحمد نصر هو الذى ادار وخطط للمعركة وتمكن من التحكم وادارةثلاثة الوية منهم لواء دفاع جوى وكان هو قائد قاعدة المنصورة في الساعة العاشرة مساء (توقيت القاهرة المحلي) أذاع راديو القاهرة البلاغ رقم 39والذي جاء فيه "دارت اليوم عدة معارك جوية بين قواتنا الجوية وطائرات العدو التي حاولت مهاجمة قواتنا ومطاراتنا وكان أعنفها المعركة التي دارت بعد ظهر اليوم فوق شمال الدلتا. وقد دمرت خلالها للعدو 15 طائرة وأصيب لنا 3 طائرات. كما تمكنت وسائل دفاعنا الجوي من إسقاط 29 طائرة للعدو منها طائراتا هيليكوبتر. وبذلك يكون إجمالي خسائر العدو من الطائرات في المعارك اليوم 44 طائرة منها طائرتا هيليكوبتر." على نفس الصعيد زعم الراديو الإسرائيلي في نهار اليوم التالي أن القوات الجوية الإسرائيلية أسقطت 15 طائرة مقاتلة مصرية ولكن هذا الرقم تضائل إلى سبعة فيما بعد.
بعد انتهاء الحرب والتدقيق والدراسة تبين أن نتائج معركة المنصورة الجوية الحقيقية كانت كالتالي :
أسقطت 17 طائرة مقاتلة إسرائيلية عن طريق 7 طائرات ميج.
أسقطت 3 طائرات مقاتلة مصرية بالإضافة إلى فقدان طائرتين بسبب نفاذ وقودهما وعدم قدرة طياريها من العودة إلى القاعدة الجوية، كما تحطمت طائرة ثالثة أثناء مرورها عبر حطام طائرة فانتوم متناثرة في الجو كانت قد أسقطت بواسطة تلك الطائرة.
و منذ ذلك اليوم و تحتفل قواتنا الجوية بعيدها فى يوم 14 اكتوبر
يوم معركة المنصورة الجوية
ملحوظة :
كان أحد اقاربى إبان الحرب يخدم فى قاعدة المنصورة الجوية
و اخبرنى فى إحدى جلساتنا بعد انتهاء الحرب عن عظمة الشعب المصرى فى تلك المعركة - معركة المنصورة - متذكراً كيف كان يهرع أبناء القرى المجاورة للقاعدة عقب اى غارة جوية ليساعدوا فى ترميم ما تلف وقال لى بالنص " ان النساء قبل الرجال كن يكنسن بثيابهن ممر افقلاع و الهبوط لتخليصه من اى شوائب او أحجار متناثرة "
ملحوظة 2 :
طبعا المعركة حملت اسم المنصورة لكنها كانت تقريبا على مساحة شملت شمال ووسط منطقة الجدلتا بالكامل
....................................................
لقد عانيت نفسيا كثيراً لعدم مشاركتى فى حرب اكتوبر بسبب اننى كنت صغيراً حتى تذكرت لك القصة و أقنعنى شيطانى اننى كنت أحد أبطال تلك الحرب بمشاركتى الرمزية فى معركة المنصورة الجوية
.... ...... .....