على رصيف نمرة 6 "رصيف ركاب الاسكندرية" بمحطة قطارات طنطا جلسنا ننتظر القطار الذى سيقلنا الى الاسكندرية
قطعنا تذاكر بقطار الدرجة الثالثة ببضعة قروش، و احتمينا بالمظلة من قيظ شهر يوليو الخانق
تأخر القطار و هبت نسمة هواء لطيفة مرت على وجوه المنتظرين المتعرقة فمرت برداً وسلاما
جلست انا و رفيقى فى تلك الرحلة تداعبنا أحلام عريضة عن تلك الأموال التى سنتكسبها من العمل فى الميناء
هو عمل بسيط تصاحبه نزهة بحرية، هكذا اقنعنا أحد الفتية ،الذى بمثل عمرنا عن رحلته للاسكندرية، و كيف عاد من العمل فى الميناء محملا بالأموال بخلاف كراتين التفاح التى تحصل عليها من حصيلة مراكب التفاح التى قام بتفريغها فى عرض البحر و نقلها لمراكب اصغر حجما
نعم.. نحن موعودون بالعمل فى الميناء لتفريغ مراكب محملة بالتفاح
أى عمل جميل هذا ؟؟ نعمل و نتزه فى الوقت نفسه و نرى البحر و نركب السفن العملاقة، و نرتاح من العمل فى الزراعة تحت لهيب الشمس الحارقة و العائد معدوم، حيث نعمل فى حقولنا و نرعى بهائمنا بلا اجر!!
و بينما الأحلام تلعب بعقلى الصغير كان رفيقى فى الرحلة يهزنى و هو يقول "يللا بينا القطر وصل"
"هوا دا قطر اسكندرية يا عم الحاج" سألت رجلا يقف بجوارى
فرد:
"أيوة يا ابنى"
ما أن استقر القطار أمامنا قفزنا داخله بسرعة
بمجرد دخولنا من باب العربة انتابنى قلق غير مفهوم
ما هذا الهواء البارد الذى يقابلنا من داخل العربة بينما لهيب الشمس و حرارتها يشوى الوجوه فى الخارج؟
و أى أرقام تلك التى يبحث عنها الركاب على تذاكرهم؟؟
تذاكرنا بلا أرقام..
قبل أن نقرر كيف سنتصرف كان القطار قد تحرك بعد أن أغلق أبوابه و نحن فى داخله
استسلمنا لمصيرنا و وقفنا فى نهاية العربة فلا مقاعد لنا و ربما الأمر يتخذ منحاً خطيراً، لقد ركبنا القطار الخطأ، كان علينا انتظار قطارنا الذى سيأتى بعده
دقائق و كان الكمسارى يفتش فى العربة عن التذاكر حتى وصل إلينا
قدمنا له ما معنا من تذاكر فألقى بها على الأرض و طلب جنيهين تقريبا و شرع فى استخراج قسيمة من دفتر فى يده
و بلا اى تردد او محاولة تمنع اخرجنا له جنيهين و أعطانا القسيمة و قال لا تتحركوا من هنا
خلال أقل من ساعتين كنا قد وصلنا الاسكندرية على متن هذه الرحلة مكيفة الهواء و ما أدراك ما التكييف فى تلك الفترة من سبعينات القرن الماضى، بينما قرانا لم تعرف بعد المراوح
إلى منطقة حى الجمرك وصلنا
لم يكن لدى فتية مثلنا تصور عن الميناء او حجمه أو مساحته و لا اى شىء
كانت أيامنا بسيطة و أفكارنا أشد بساطة و تصوراتنا شديدة المحدودية
فى اللحظة التى وقفنا فيها عند أسوار الميناء العالية انهارت احلامنا فى العمل و المال و التفاح
تحركنا قليلا فى المنطقة بينما عقولنا الصغيرة قد بدأت تتفهم المقلب الذى شربناه من صديق ملأ عقولنا بالوهم، بينما هو لم يسافر الى الاسكندرية فى حياته، علمنا بذلك فيما بعد
قررنا ان نبحث عن لوكاندة نقضى فيها ليلتنا بعد أن أقبل علينا الليل
فى منطقة المنشية عثرنا على لوكاندة شعبية و حجزنا غرفة و دفعنا ثمنها
ثم تركنا حقائبنا و نزلنا نتمشى فى الشوارع و نشاهد النصب التذكارى للجندى المجهول و الجنود تسير امامه جيئة و ذهابا
عدنا ليلا لكى ننام
تمددنا على الاسرة و ذهبنا فى النوم بعد يوم شاق بدأ بُعيد الفجر
لم يمضى وقت طويل ربما دقائق و نحن الاثنان ننهض سويا مفزوعين و قد اشتعلت أجسادنا من لدغات غير مفهومة بالنسبة لنا و لا عهد لنا بها
أوقدنا نور الحجرة فإذ بحشرة غريبة تفر هاربة لداخل الفراش
ما هذه الحشرة اللعينة و ما هذه الأدران الحمراء التى تركتها على أجسادنا البائسة ؟؟
عرفنا فيما بعد ان اسمها "البق"
اسرعنا الى الحمامات لكى نطفىء بالماء البارد التهاب الجسد
تبادلنا الحديث اننا لن نستطيع النوم فى ظل تلك الحالة السيئة
جلست أدخن السجائر و نتبادل اطراف الحديث و الحكايات و نحن نستجلب ضوء النهار لكى نهرب من هذا المكان
طلب صديقى سيجارة و لم يكن مدخنا، و ظل يدخن معى طوال الليل بزعم ان السجائر ستمنعه من النوم
قبيل الفجر كان التعب قد استبد بنا فذهبنا فى النوم غصبا عنا
دقائق و تكرر مشهد اول الليل
إلى الحمامات مرة ثانية لنستحم و نغادر المكان الموبوء مع أول ضوء بعد الفجر
لقد خابت مساعينا فى العمل فهل سنعود ادراجنا ؟؟
سألنى صديقى
قلت له لن نعود اليوم
علينا أن نزور اقاربنا هنا و معى العنوان، ركبنا الترام متوجهين للمنزل حيث العنوان المكتوب معى
خلال وقت قصير كنا فى منزل اقاربنا نقص عليهم التجربةفأصروا علينا لنبقى طرفهم لبعض الوقت كى تزول عنا أثار الرحلة السيئة
بالفعل قضينا يومين معهم نذهب للشواطىء و البحر كمصيفين
ثم عدنا و لكن فى رحلة قطار درجة ثالثة حقيقى بكل ما تحمله الكلمة من زحام و حر و باعة وخناقات
عدنا دون أن نحمل كرتونة تفاح واحدة، أو نرى حتى السفينة التى تحمله