في حياة البشر محطات فارقة، تحمل في طياتها ألمًا وفرحًا، وتختزل دروسًا عظيمة عن الحياة والمصير، مثل هذه المحطات تُجسّد قصة صديقي "المندوه هدرة" المعروف بـ"ماندو"، الذي مرّ بتجربة يصعب وصفها بكلمات، تجربة بدأت بفرحة البراءة وسجدة الشكر، وانتهت بدمعة الفقد ولوعة الحزن، لتكون شاهدًا على مفارقات الدنيا وتقلباتها.
كبوة الظلم وعدالة السماء
تبدأ القصة عندما تعرض "ماندو" وشقيقه لاتهامٍ في قضية تحريض علي قتل، وهو اتهام ظالم كاد أن يقودهما إلى قضاء سنوات طويلة خلف القضبان، كانت الأجواء قاتمة، والأمل يبدو بعيدًا، ولكن دعوات الأحبة وعدالة القضاء المصري أعادت لهما الحياة من جديد، بعد شهور من المعاناة، جاء حكم البراءة لينزع عنهما ثوب الظلم، وليضع وسام الحق على صدريهما، كان المشهد لحظة خروجهما من السجن ملحميًا، دموع الفرح تملأ العيون، والدعوات ترتفع من القلوب، أهل القرية الذين تملكهم الشك لحظة الاتهام، عادوا ليعانقوا "ماندو" وشقيقه، معبرين عن أسفهم وسعادتهم في الوقت ذاته.
سجدة شكر واستجابة الدعاء
كانت أولى لحظاتهما عقب سماع حكم البراءة سجدة شكر لله، الذي لم يخذلهما وأعاد لهما حريتهما وكرامتهما، في تلك اللحظة، كانت الفرحة تكاد تطغى على كل شيء، حتى بدا وكأن أبواب الأمل قد فُتحت على مصراعيها ليعوضا ما فاتهما من أحلام وطموحات.
ولكن للقدر كلمة أخرى
بينما كانت الفرحة تعم الأجواء، شاء القدر أن يقلب المعادلة رأسًا على عقب. في مشهد مأساوي، توفيت والدتهما عقب إنتشار خبر الإفراج عنهما، وكأنها كانت تنتظر فقط أن تطمئن ولديها أحرارًا قبل أن تُسلم روحها إلى بارئها، وكأن روحها الطاهرة تعلقت بسماع خبر خروج أبنيها من غياهب السجن وتبرأتهما أمام الجميع.
تبدل المشهد فجأة من التهاني بالبراءة إلى التعازي في فقدان أغلى الناس. تحول سرادق الفرح إلى سرادق عزاء، وامتلأت العيون التي كانت تضحك قبل لحظات بالدموع. كانت اللحظة شديدة الصعوبة، فقد جمع الحدث بين قمة الفرح وقمة الحزن في آنٍ واحد.
الأم... نبع الحنان الذي لا يعوض
لا يمكن وصف حجم الفقد عندما يتعلق الأمر بالأم. هي نبع الحنان والعطاء، وغيابها يترك في القلب فراغًا لا يمكن أن يملأه شيء. شعرتُ وأنا أجلس في سرادق العزاء بأن الحزن يخيم على الجميع. كانت مشاعرهم متناقضة؛ هل يقولون لـ"ماندو" مبارك البراءة؟ أم يعزونه في فقدان والدته؟
الحياة بين الفرح والحزن
تُعلمنا هذه القصة أن الدنيا دار تقلبات، لا يدوم فيها حال. كما قال الإمام علي بن أبي طالب: "لا فرح يدوم، ولا حزن يبقى". ربما كنا بحاجة إلى هذه الأحداث لنستوعب حكمة الله في كل شيء.
ما بين سجدة الشكر ودمعة الفقد، يبقى الثابت هو الإيمان بقضاء الله وقدره. في الفرح نشكر، وفي الحزن نصبر، وفي كل الأحوال نردد: الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
الدروس والعبر
هذه القصة ليست مجرد حكاية شخصية، بل هي درسٌ عظيم لكل من يعايش تقلبات الحياة. تعلمنا أن السعادة لا تدوم، وأن الحزن مهما اشتد فإن له نهاية، كما تعلمنا أن الفرح الحقيقي لا يتحقق إلا بلقاء الله والفوز بجناته، حيث لا حزن ولا ألم، تضارب في المشاعر وصعوبة في التعبير ورغبة في أن تقول لماندو وللجميع تلك هي الدنيا دائمًا بين فرحة عارمة غامرة تستحق سجدة شكر ودمعة حارة تستلزم الصبر والشكر ايضًا فلا دوام لفرح ولا بقاء لحزن وبين هذا وذاك يبقي الحمد لله والشكر له سبحانه في كل الأوقات هو المنجي والباب الأساسي للرضا للفوز برضا الله سبحانه وتعالي فدوام الحال من المحال والآن نفرح ولكن إنتظر الحزن وإن كنت حزينًا فانتظر الفرح، نعم يبقي الفرح والفرحة الكبيرة الأبدية عند لقاء المولي عز والجل والفز برضاه في الآخرة ودخول جنة عرضها كعرض السموات والأرض.
في النهاية، أقول لماندو وشقيقه: اجعلوا من هذه التجربة درسًا يعزز إيمانكم بالله، وذكرى تحملكم نحو مستقبل أفضل. واجعلوا من فقدان والدتكم حافزًا لتكريم ذكراها بالسير على دربها، فالدنيا دار اختبار، والفرحة الأبدية تنتظرنا عند لقاء الله.
وانا أجلس في سرادق العزاء كتبت عنوان هذا المقال فما شاهدته في أعين الجميع اجمع علي هذا المعني من سجدة شكر إلى دمعة فقد، فهي قصة تصف ببساطة عمق الحياة. إنها رواية عن تقلبات القدر، وعن حكمة الله التي قد تخفى علينا أحيانًا، لكنها دومًا تحمل الخير، نسأل الله أن يتغمد والدة "ماندو" برحمته، وأن يرزقه وأهله الصبر والسلوان، وأن يجعل القادم من أيامهم مليئًا بالخير والبركات.
الحكمة في توقيت وفاة الأم
حين نتأمل توقيت وفاة الأم، نجد حكمة إلهية عميقة قد لا تُدركها العقول بسهولة في خضم الألم والحزن. فكيف لأمٍّ تحملت مرارة الاتهام في حق أبنائها وصبرت على فراقهم أن تترك الدنيا في اللحظة التي تكتمل فيها فرحتها ببراءتهم؟، ومن زاوية إيمانية، يمكننا أن نستشعر أن الله سبحانه وتعالى قد أكرم هذه الأم بأن ترى أعظم أمنياتها تتحقق قبل رحيلها. لقد انتظرت اللحظة التي ترى فيها الحق يُزهق الباطل، وترى أولادها أحرارًا مرفوعي الرأس. وكأنما كان قلبها موقنًا أن الفرج قريب، فبقيت على قيد الحياة لتطمئن وتودّع الدنيا بعد أن رأت ما كانت تدعو الله من أجله.
هذا المشهد يذكرنا بقول الله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" (البقرة: 216). فرغم الألم الكبير لفقدانها، فإن في توقيت وفاتها ما يجلب الراحة لقلب أبنائها، إذ رحلت وابتسامتها على وجهها، مطمئنةً بأنهما قد تحررا من الظلم، كما أن هذا التوقيت يحمل رسالة عميقة عن بر الوالدين، فقد تكون وفاة الأم في هذا الوقت تذكرة لأبنائها بأن وجودها كان سندًا لهم، وأن فقدانها يحتم عليهم أن يحيوا وفق القيم والمبادئ التي غرستها فيهم. هذه اللحظة قد تكون بمثابة وصية غير منطوقة بأن يستمروا في حياتهم بكرامة وشرف، مستذكرين دورها في دعمهم حتى آخر رمق.
تجلي الرحمة الإلهية
الحكمة الإلهية تظهر أيضًا في الرحمة التي أُحيطت بها هذه الأم، فقد تُوفيت بعد لحظة فرح ورضا، وليس في قمة ألمها وقلقها على أبنائها، رحلت وهي مطمئنة إلى أن اسم عائلتها قد بُرّئ من الظلم، وأن ولديها سيبدآن حياة جديدة بعد أن عانوا ما عانوه، هذا التوقيت يجعلنا نرى رحمة الله في الابتلاءات، فهي ليست عقابًا بقدر ما هي اختبار، قد يُعقبه عطاء عظيم، فكما أن الله أفرج عن الأبناء، فإنه أكرم الأم بأن تكون شاهدة على هذا النصر قبل أن تُقبض روحها الطاهرة.
دروس لنا جميعًا
إن وفاة الأم بعد براءة أبنائها ليست مجرد حدث عابر، بل هي رسالة لكل من فقد والدته أو أي عزيز عليه. تُعلمنا هذه القصة أن الأقدار تسير بحكمة، وأن الله يدبر الأمور بمنتهى الرحمة واللطف، حتى وإن لم ندرك ذلك فورًا، لقد اختار الله أن يجعل هذه القصة شاهدة على عظمة الأم وعظمة الأقدار، ليبقى توقيت وفاتها درسًا لكل من يمر بمثل هذا الموقف: أن الفرحة والحزن، كما الحياة والموت، كلها أقدار بيد الله وحده، وكلها تسير لحكمة لا يعلمها إلا هو. نسأل الله أن يرحم جميع أمهاتنا، وأن يجمعنا بهن في مستقر رحمته يوم لا ظل إلا ظله.
مرة أخري خالص العزاء لأخي وصديقي ماندوه وأشقائه وكل الأهل والإخوة في قرية دهتورة الحبيبة وسبحان من له الدوام...