إذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بقاء دولة قريش كما استعرضنا ذلك في المقالتين السابقتين, فهو أشد حرصاً على الحفاظ على دولة المدينة المنورة، ويظهر ذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: الدعاء بالخير للمدينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا"، وبَيْن حُبِّه صلى الله عليه وسلم لمكةَ الوطنِ الأول، ودعائه للمدينةِ الوطنِ الثاني، يظهر أن الوطن هو كل بلد استقر فيه الإنسان وُلِد فيه أم في غيره، وهذا ما يفيده العموم في قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}[الرحمن: 10]، فالأرض كلُّها وطن للإنسان.
ثانياً: التأمين العسكري للمدينة، وفي فضل الدفاع عن المدينة، وحراسة الأوطان يقول صلى الله عليه وسلم : " عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
ثالثاً: التأمين السياسي للمدينة، وذلك من خلال الوثائق والمعاهدات التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم مع جيرانه من غير المسلمين، وأقرهم فيها على دينهم وأموالهم، وشَرَط لهم، واشْترط عليهم.
رابعاً: سَنُّ القوانين الرادعة للعابثين بأمن الأوطان كحد الحرابة الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: 33]، ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حد الحرابة عملياً على المتسببين في خلخلة النظام العام.
خامساً: الحفاظ على أوطان غير المسلمين؛ لأن في استقرارها استقرار للمدينة نفسها, ويظهرذلك جليا من خلال سياسة النبي صلى الله عليه وسلم الخارجية, ومن خلال كتبه ورسائله للملوك والأمراء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة إلى ابن كسرى لما تمكن من مُلك أبيه، يقول فيها: "إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء".
وفي كتابه صلى الله عليه وسلم لملك عُمَان وأخيه قال: "فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل، وتظهر نبوتي على مُلكِكُما.
وهذا تقرير عملي وتطبيقي نبوي يؤكد على حفظ أوطان غير المسلمين، وأن دخول الإسلام إلى هذه البلدان لا يعني تفكيكها سياسياً واجتماعياً للسيطرة عليها، بل يحرص الإسلام أشد الحرص على حفظ وحدة هذه الأوطان وتماسكها بنظامها الشعبوي(الجمهوري)، أو نظامها قبلي، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}[الحجرات: 13]، ليَزيدها الإسلام قوة لقوتها، ووحدة لوحدتها، ومن هنا يظهر خطر الجماعات الإسلامية المتطرفة التي لم تتعلم مقومات الأمن القومي، الذي يصان به البلدان، وتحفظ بها الأوطان، ولم يعرفوا معنى الحفاظ على مؤسسات الدول والبقاء على تماسكها، وكانوا معول هدم للوطن لا سببا في استقراره وأمنه وأمانه, وذلك بسبب جهلهم بالسياسة النبوية الحكيمة الرشيدة للحفاظ على الأوطان وسلامة البلدان.