حب الأوطان فطرة فطر الله تعالى عليها كل إنسان وأودعها في نفس الطير والحيوان، وجاء الإسلام ليرسخ هذه الفطرة، وجعل من مات دون وطنه شهيدا عند ربه، وقد ظهرت فطرة محبة الأوطان جلية في مشهد الحزن والأسى الذي أصاب قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمات التوجع التي تمتم بها وهو على مشارف مكة، وقد أوشك على مغادرتها، وهو يخاطبها كإنسانة لها روح تعقل وتشعر وتتألم للفراق فيواسيها بقوله: "وَالله إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلىَ اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ".
وفرق كبير بين الخروج والإخراج، فالخروج يكون بحرية الإنسان وإرادته، أما الإخراج فهو الخروج بالإكراه أو بمعنى أدق هو الطرد والإقصاء، وهو أثقل على نفس الحُر من القتل، وقد قرن القرآن الكريم بين التهجير القصري والقتل، فقال تعالى في نهي الأمم السابقة عن الاثنين: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84].
وسنة الله باقية في الصراع بين الحق الباطل إلى يوم القيامة، ومهما ارتفع الباطل أو علا صوته إلا أنه ضعيف في نفسه لا يستطيع مواجهة الحق؛ فيلجأ لمحو الحق بالقتل أو الإكراه على التهجير والإخراج، وقد حكى القرآن الكريم تهديد أهل الباطل للأنبياء والرسل بالتهجير من بلدانهم فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}[إبراهيم: 13].
وقد أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة التي هي أحب البلاد إلى قلبه، كما قال تعالى عن مكر وكيد أهل الباطل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30]
وقد سلك الإسلام منهجا قويما للحفاظ على الأوطان واسترجاعها من يد المغتصبين, ويتلخص ذلك فيما يلي:
ـ بذل المال والنفس في سبيل الحفاظ على الأوطان؛ لأن الوطن أغلى من المال والنفس، كما أثار الشرع حمية الدفاع عن الأوطان في نفوس الأحرار حتى الموت، من خلال منحهم وسام الشهداء، كما في الحديث: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".
ـ استعادة القوة وترتيب الصفوف لاسترجاع الأرض وتراب الوطن إذا ما تم اغتصابه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجع إلى مكة منتصرا وفاتحا، وقد ذمت الآيات تقاعس قوم موسى وجبنهم عن استرجاع المدينة المقدسة، حينما قالوا: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة: 21 - 23].
ـ جعل الإسلام حصة من مال الزكاة لمعاونة الغريب ومساعدة ابن السبيل في الرجوع إلى أهله ووطنه، فقال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، وأن ما يأخذه ابن السبيل للوصول إلى بيته هو حق خالص له ولا يسترد منه، قال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء: 26].