شهدت الأيام القليلة الماضية تحولات دراماتيكية على ساحة المواجهة بين العدو الصهيوني والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فكلنا يعلم حجم العداء بينهما، لكن هذا العداء لم ينشأ إلا بعد الثورة الإسلامية التي أسقطت حكم الشاه في عام ١٩٧٩، فمنذ إعلان دولة الكيان في عام ١٩٤٨ أقامت إيران علاقات وثيقة معه فكانت ثاني دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بالكيان الصهيوني وذلك في ١٤ مارس ١٩٥٠، وكانت قد سبقتها للاعتراف تركيا في ٢٨ مارس ١٩٤٩، وتعامل العدو الصهيوني مع إيران باعتبارها حليف طبيعي وذلك لأنها دولة غير عربية تقع على حافة العالم العربي، ووفقاً لمفهوم ديفيد بن جوريون مؤسس الكيان لتحالف المحيط، كان للكيان الصهيوني وفد دائم في طهران، اعتبر سفارة بحكم الأمر الواقع، قبل أن يتحول إلى تبادل السفراء في أواخر حكم الشاه، وخلال حكم الشاه قامت إيران بتزويد الكيان الصهيوني بجزء كبير من احتياجاته النفطية، وشحن النفط الإيراني إلى الأسواق الأوروبية عبر خط الأنابيب الصهيوني – الإيراني المشترك (إيلات-عسقلان)، واستمرت التجارة النشطة بين البلدين، مع نشاط شركات البناء والمهندسين الصهاينة في إيران، ونظمت شركة العال الوطنية الصهيونية رحلات مباشرة بين تل أبيب وطهران، وكان هناك تعاون عسكري سري مثل مشروع الوردة وهو محاولة إيرانية – صهيونية لتطوير صاروخ جديد، وقبل الثورة كانت الديون المستحقة لإيران لدى الكيان الصهيوني قد بلغت مليار دولار، رفض العدو تسديدها بعد الثورة لإيران.
وبالطبع جاءت هذه العلاقات الوثيقة بين إيران والكيان الصهيوني على خلفية علاقة شاه إيران محمد رضا بهلوي بالولايات المتحدة الأمريكية حيث اتسمت العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وإيران بالكثير من الود، حيث استدعته إليها وثبتت حكمه في إيران عام ١٩٤١، ليخلف والده رضا شاه الذي أقلق واشنطن ودول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع ألمانيا النازية وتزويدها بالنفط الإيراني، لذلك نسجت الولايات المتحدة علاقة قوية مع محمد رضا بهلوي ليصبح رجلها القوي في منطقة الشرق الأوسط، وشرطي الخليج كما كان يطلق عليه في ذلك الوقت، وكان الشاه الشاب مولع بالغرب، ويحلم بتحويل بلاده لدولة عظمى، ووجد ضالته في الحضن الأمريكي، وانتهج سياسات الحفاظ على المصالح الأمريكية، وتنفيذ تعليمات السيد الأمريكي لسنوات طويلة، ومنح الأمريكي امتيازات كبيرة في بلاده، وأدخل المستشارين العسكريين الأمريكان لمراقبة الأوضاع في إيران بهدف الحفاظ على المصالح الأمريكية، كما تحكمت الولايات المتحدة في تعيين نواب البرلمان وتحديد أدوارهم، وفرضت قانون الحصانة القضائية للأجانب، والذي يعفى بموجبه الأجانب من المسائلة القانونية على الأرض الإيرانية حتى لو ارتكبوا جرائم، وسمح الشاه بإقامة قواعد في شمال إيران قرب الحدود الروسية للتجسس على السوفييت، وساعدت الولايات المتحدة الأمريكية الشاه في تأسيس جهاز المخابرات السرية (السافاك) في عام ١٩٥٧ والذي استخدمه في تعذيب وقتل الآلاف من معارضيه، وفي أعقاب الثورة الإسلامية وخروج المظاهرات والإضرابات المناهضة لنظام حكمه تخلى عنه الأمريكان، واضطر لمغادرة إيران ولم يقبله أحد إلا أنور السادات في مصر.
وبعد انتصار الثورة في ١١ فبراير ١٩٧٩ عاد الزعيم الديني الإسلامي آية الله الخميني من منفاه في فرنسا، وتم تنصيبه على رأس الدولة، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية وإيران والعدو الصهيوني من ناحية أخرى، فالإمام الخميني كان يعتبر أمريكا هي الشيطان الأكبر في العالم، والعدو الصهيوني هو الشيطان الأصغر، فالولايات المتحدة في نظره ناهبة ثروات العالم، والعدو الأكبر للإسلام والمسلمين في شتى أرجاء الأرض، لذلك رفع شعار "الموت لأمريكا" خلال الثورة الإسلامية الإيرانية، وقلبت الثورة الإيرانية كل الموازين، وأغلقت السفارة الصهيونية في طهران، وحل محلها سفارة فلسطين، ورفعت إيران شعارات تحرير فلسطين والقدس والأقصى، عبر تشكيل ودعم محور المقاومة، واحتلت السفارة الأمريكية في ٤ نوفمبر ١٩٧٩ من قبل طلبة الجامعات واحتجزوا ٥٢ موظفاً أمريكياً، وقطعت أمريكا علاقاتها الدبلوماسية مع إيران في ٧ إبريل ١٩٨٠ في حكم الرئيس جمي كارتر، وأفرجت إيران عن الرهائن يوم تنصيب الرئيس رونالد ريجان في ٢٠ يناير ١٩٨١، وبذلك نسجت خيوط العداء مع الولايات المتحدة الأمريكية والعدو الصهيوني، ولم تختلف سياسة إيران المناهضة لأمريكا والعدو الصهيوني بعد وفاة الإمام الخميني في عام ١٩٨٩، وتسلم المرشد الحالي آية الله علي خامنئي.
وظلت إيران داعمة لمحور المقاومة الذي يسعى لتحرير فلسطين، وخاض العدو الصهيوني معارك طاحنة مع هذا المحور، وكانت عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أخر هذه المعارك، والتي على أثرها قام العدو الصهيوني بالعدوان على غزة بهدف القضاء على حماس وتهجير سكان غزة لسيناء، وعندما بدأت حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، تدخلت جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وسورية وإيران كلا على حسب سير المعركة، وعندما فشلت أهداف العدو في غزة، قام باقتحام لبنان وخاضت المقاومة اللبنانية حرب شرسة، ارتقى على أثرها عدد كبير من قيادتها وفي مقدمتهم شهيدنا الأقدس سماحة السيد حسن نصر الله، وعندما فشلت أهداف العدو في لبنان، قام باقتحام سورية لتحقيق انتصار على أحد أهم جبهات محور المقاومة، وللأسف الشديد نجح العدو في إسقاط النظام السوري، وتحطيم الجيش والقضاء النهائي على ترسانته العسكرية، واستبدله بنظام عميل أعلن أنه سيعمل في خدمة الشيطان الأصغر تحت رعاية الشيطان الأكبر، وهنا اعتقد العدو الصهيوني ومن خلفه العدو الأمريكي وحلفائهما الغربيين، أن الفرصة قد أصبحت سانحة لإسقاط النظام الإسلامي في إيران، كما فعلوا في سورية، لكن هيهات لقد كانت خطوة متسرعة وجنونية، وبالفعل بدأ التنسيق في ليل بين العدو الأمريكي وحليفه الصهيوني، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه يمنح إيران ٦٠ يوم من المفاوضات لإنجاز اتفاق حول برنامجها النووي، وخلال الشهرين لم يتم التوصل لاتفاق، وفي الوقت الذي كان يستعد كلا الطرفين لجولة جديدة من المفاوضات في سلطنة عمان، قامت الولايات المتحدة بإخلاء قواعدها العسكرية في المنطقة كلها وكذلك سفاراتها وطلبت من رعاياها أخذ الحيطة، وبعد ساعات من انقضاء الشهرين كان العدو الصهيوني يقوم بضربة غاشمة لإيران، اعتقد أنها سوف تصيب النظام في مقتل وسوف تألب الداخل الإيراني عليه، وتكون الفرصة بعد ذلك سانحة بتغيير النظام واستبداله بنظام عميل كما كان نظام الشاه قبل قيام الثورة الإسلامية.
لكن خابت توقعات العدو الصهيوني ومن خلفه العدو الأمريكي، حيث تمكن النظام ورغم قوة الضربة من استيعابها بسرعة، وخلال ساعات قليلة تم تعيين قادة جدد محل القادة الذين تم اغتيالهم، وخرج المرشد الأعلى السيد علي خامنئي يخاطب الشعب الإيراني ويعده بضربة قاسمة للعدو الصهيوني، وبعد ساعات قليلة جاء الرد الإيراني الحاسم، الذي وصفته وسائل الإعلام العبرية بأنها أكبر ضربة شهدها الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، وما يؤكد قوة الضربة هي هرولة العدو الأمريكي وحلفائه الغربيين لمحاولة وقف الحرب والذهاب لطاولة المفاوضات، لكن إيران أعلنتها وبقوة وحسم أنها لم تذهب إلى الحرب لكنها فرضت عليها، ولن تتوقف قبل تأديب الكيان الصهيوني الهش، الذي هو أوهن من بيت العنكبوت، وحتى اللحظة لازالت الحرب مستمرة ولازال المستوطنين الصهاينة الذين يقدروا بستة ملايين يختبئون في الملاجئ تحت الأرض، وفيما يتعلق بسيناريوهات المستقبل، فيمكننا القول أن سيناريو الحرب الكبرى أو الموسعة مستبعد خاصة وأن العدو الأمريكي تأكد من قوة إيران وما يمكن أن تفعله بحليفها الصهيوني وإزالته من الوجود، وكذلك تدمير كل المصالح الأمريكية في الإقليم، أما سيناريو إسقاط النظام والقضاء على إيران كقوة إقليمية فقد ذهب إلى غير رجعة، والأقرب الآن هو سيناريو التهدئة والتفاوض والذي تدخله إيران وهي منتصرة في الميدان وبالتالي لا يمكن أن يفرض عليها شيء، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد