لم يعد مشهد الكلاب الضالة التي تجوب الشوارع ليلًا ونهارًا أمرًا عابرًا، بل أصبح كابوسًا يوميًا يؤرق ملايين المصريين في المدن والقرى على حد سواء، ظاهرة تفاقمت حتى تجاوزت حدود الخطر المعتاد، وصارت تهدد حياة الناس في وضح النهار، تزرع الخوف في نفوس الأطفال والسيدات، والرعب في قلوب كبار السن، وتحوّل أبسط تفاصيل الحياة اليومية إلى معركة للبقاء، ففي كل حي وشارع وقرية، حكاية عن طفل تعرض للعقر، أو سيدة سقطت أثناء الهرب من قطيع ضال، أو مسن أصيب في ذراعه أو قدمه أو ربما وجهه بعد مطاردة غير متوقعة، مأساة متكررة لا تجد من يضع لها حدًا حاسمًا، رغم ما تتركه من جراح جسدية ونفسية على المواطنين.
فقد أصبح الأمر خطر يومي يتجاوز الترويع إلى الدماء فالواقع يقول إن الخطر لم يعد مجرد نباح مزعج أو مطاردة مفاجئة، بل تطور إلى حوادث عقر جماعية وحالات إصابة تنقل إلى المستشفيات بشكل شبه يومي، بيانات وزارة الصحة تشير إلى آلاف الحالات التي تتلقى اللقاحات سنويًا ضد داء الكلب، معظمها نتيجة تعرضهم لهجمات من كلاب ضالة، وهو ما يعكس خطورة الظاهرة وحجمها الحقيقي، فلم يعد المواطنون يملكون رفاهية الخوف في صمت، ولا يطلبون سوى أبسط حقوقهم وهي: أن يسيروا في شوارعهم بأمان، فالكلاب التي تتجول بحرية في الأحياء السكنية لم تعد مشهدًا اعتياديًا، بل خطرًا يتهدد الأطفال في طريقهم إلى المدرسة، والنساء عند عودتهن ليلًا، وكبار السن الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ولا الجري بعيدًا.
وقلل أن يزايد أحدًا علينا بزعم الرفق بالخيرات فالناس البسطاء يعرفون معنى الرفق بالحيوان، ويقدرون الرحمة التي أوصى بها الدين والضمير الإنساني، لكنهم في الوقت ذاته لا يملكون ترف التعايش مع الخطر، فنحن وهم لسنا ضد الرحمة، بل ضد الألم، لسنا ضد الحياة، بل ضد الخوف الذي يسكن الشوارع ويقتحم بيوتنا جميعًا خلال الفترة الأخيرة في هيئة نباح أو عقر أو مطاردة مؤلمة تخلف الآلام.
ولابد أن نقر ونعترف أن الأمن مسؤولية شاملة لا تتجزأ فعندما تتحدث عن الأمن في مفهومه الواسع، فأنت لا تتحدث فقط عن مكافحة الجريمة أو ضبط الخارجين على القانون، بل عن صون حق المواطن في الأمان بمفهومه الكامل: الأمان في الطريق، في المدرسة، في الحي السكني، في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، وهنا يأتي الدور الحيوي لوزارة الداخلية وجهاز الشرطة، باعتبارها الجهة المنوط بها تحقيق الأمن العام بمفهومه الشامل، وهو ما يؤكده الدستور المصري في مادته رقم (206) التي تنص على أن:
"الشرطة هيئة مدنية نظامية، في خدمة الشعب، وولاؤها له، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام العام والآداب العامة، وتلتزم بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية".
هذه المادة ليست نصًا شكليًا، بل التزام واضح بأن الأمن حق لكل مواطن، وأن حماية الأرواح لا تقل أهمية عن حماية الممتلكات أو مواجهة الجريمة المنظمة.
وما بين الرفق بالحيوان وحماية الإنسان المطلوب اليوم ليس الدعوة إلى القسوة أو القتل والعياذ بالله، ولا إلى القضاء على فصيلة الكلاب كما يروج البعض، بل نحن كل ما نطالب به هو وضع رؤية إنسانية واقعية تحفظ التوازن بين الرحمة والحماية، فالإسلام دين رحمة، دعا إلى الرفق بالحيوان، لكنه أيضًا دين يحمي النفس البشرية ويصون حقها في الحياة الآمنة، والانسان هو محور الكون ووريثه من الله وهو الأهم في هذه الحياة وحياته هي الأسمي والأهم.
والحل لا يكون في ترك الشوارع فريسة للقطيع الضال، ولا في ردود الأفعال العشوائية، بل في خطة علمية متكاملة تتضافر فيها جهود وزارات الداخلية، والتنمية المحلية، والزراعة، والصحة، بالتعاون مع المجتمع المدني، لتنفيذ برامج واقعية للسيطرة على أعداد الكلاب الضالة بطرق إنسانية فعالة، تشمل التطعيم، والإيواء، والتعقيم، والاقصاء من خلال تخصيص فرق متخصصة للتعامل السريع مع البلاغات ومتابعة كل جديد في هذا الأمر.
وللحق أقول أنه بكل أسف أصبح في كثير من المناطق الخوف من الكلاب الضالة جزءًا من روتين الناس اليومي فالأطفال يغيرون طريقهم إلى المدرسة، أمهات يحملن العصي عند الخروج من المنزل، شباب يسيرون متوجسين في الطرق الجانبية، ومسنون لا يخرجون إلا للضرورة القصوى بل وأصبح الـ"عض وسحل ونباح الكلاب" شيء ملعون ولكنه ضيف دائم في شوارعنا فالخطر يهدد أطفالنا وكبارنا، ومدعو الرفق بالحيوان ينعتون من يريدون التصدي بأبشع الألفاظ ويجهزون له أفظع الإتهتمات لا لشيء إلا أنه رفض هذا الوجع المتواجد بالشارع المصري ووقف مناهضًا لظاهرة تحوّلت إلى تهديد حقيقي للأمن الاجتماعي.
دور الدولة واجب لا خيار
إن حماية المواطن ليست منّة، بل واجب دستوري لا يقبل التأجيل أو التهاون ووزارة الداخلية – بما تمثله من ذراع تنفيذية قوية للدولة – مطالَبة اليوم بتفعيل دورها في هذا الملف الحيوي، عبر تنسيق الجهود مع المحافظات ومديريات الطب البيطري، وتكثيف الحملات في المناطق التي تتزايد فيها البلاغات، مع ضمان أن تكون كل الإجراءات في إطار قانوني وإنساني يحترم حياة الحيوان دون التفريط في حياة الإنسان.
كما يجب على مجلس الوزراء وضع هذا الملف ضمن أولوياته، باعتباره قضية أمن قومي تمس حياة الناس اليومية، وتؤثر في استقرار المجتمع وشعوره بالأمان، فالخطر الذي يهدد الشارع الصغير هو نفسه الذي يهدد صورة الدولة في أعين مواطنيها.
حين تصير الرحمة عدلًا
في نهاية الأمر، لا يمكن اختزال قضية الكلاب الضالة في صراع بين الرحمة والخوف، بل في البحث عن العدالة بين حق الإنسان في الأمان وحق الحيوان في الحياة الكريمة، فالرفق لا يعني ترك الخطر يعيث في الشوارع، كما أن الحزم لا يعني القسوة.
المواطن البسيط لا يريد سوى أن يسير في طريقه دون أن يركض خوفًا من كلب ضال، ولا أن يرى طفله مصابًا في ذراعه أو قدمه أو وجهه لأنه حاول الهروب من مطاردة، إنها صرخة مجتمعية تحتاج إلى قرار حاسم، وإرادة تنفيذية تترجم النصوص إلى أفع