رئيس مجلس الإدارة
شريف عبد الغني
رئيس التحرير
ناصر أبو طاحون
رئيس التحرير التنفيذى
محمد عز
  1. الرئيسية
  2. وجهات نظر

حسام فوزي جبر يكتب ولاد الأصول بين ضجيج الواقع وضياع القيم

عندما نتحدث عن مصطلح ابن ناس أو ابن أصل، فنحن لا نتحدث عن لقب اجتماعي ولا عن حالة مادية ولا عن مستوى تعليمي بعينه، بل نتحدث عن منظومة متكاملة من القيم والسلوكيات والتربية التي تُغرس في الإنسان منذ طفولته الأولى داخل بيت يعرف معنى التربية قبل أن يعرف معنى المال فـ ابن الناس هو نتاج بيت تعب، وأسرة سهرت، وأب وأم أدركا أن صناعة الإنسان أصعب وأهم من صناعة الثروة، وأن الأخلاق لا تُشترى ولا تُستعار، بل تُبنى يومًا بعد يوم، كلمة بعد كلمة، وموقفًا بعد موقف.

ابن الأصل هو ذاك الإنسان الذي لا يحتاج إلى رقابة كي يكون مستقيمًا، ولا إلى سلطة كي يكون منضبطًا، لأنه تعلم منذ الصغر أن الله يراه، وأن الناس تستحق الاحترام، وأن الأدب ليس ضعفًا، بل قوة وأن الكلمة الطيبة تسبق الفعل الطيب، هو الشخص الذي لا يقيس نفسه بما يملك، بل بما يقدم ولا يُعرف بصوته العالي بل بأثره الطيب، تجده مختلفًا في حديثه في نظرته في طريقته، يستخدم كلمات بدأت تختفي من شوارعنا وبيوتنا مثل من فضلك، بعد إذنك، لو تسمح، إذا تكرمت، كلمات بسيطة لكنها تعكس عمق تربية، وتفرض احترامها على من يسمعها دون صخب أو ادعاء.

ولطالما اتفق العقلاء أن مصطلح ابن ناس لا يُمنح لأصحاب الأموال ولا يُسحب من الفقراء، بل يُقال لمن تعب أهله في تربيته، حتى وإن لم يتركوا له ميراثًا من المال، فقد تركوا له ميراثًا أثمن من الذهب، تركوا له سيرة حسنة وسمعة طيبة، وأخلاقًا تحميه وتحمي غيره. ابن الناس ليس غنيًا بالضرورة، لكنه متربي حتمًا.

ما دفعني للعودة إلى هذا الملف مرة أخرى هو ذلك المشهد القاسي الذي نراه كل يوم في شوارعنا وقرانا ومدننا، شباب صغار السن في عمر الورد يتحولون بكل أسف إلى أدوات أذى مجرمين تحت الطلب، يتقنون العنف ويتباهون بالقسوة ويفرضون السيطرة بالسلاح أو البلطجة أو التهديد فوصل بنا الحال إلى جرائم قتل بلا معنى صراعات بلا قضية ودماء تُراق فقط لإثبات النفوذ أو فرض الكلمة، شباب كنا ننتظر منهم أن يكونوا عونًا لأسرهم، وسندًا لمجتمعهم، ووقودًا للتنمية، فإذا بهم يتحولون إلى عبء وخطر.

المؤلم في الأمر أن كثيرًا من هؤلاء لم يكونوا فقراء ولا محرومين، بل نشأوا في بيوت ميسورة، لكنهم افتقدوا التربية تُركوا للشارع ولشاشات بلا رقابة ولأعمال فنية تُمجد العنف والبلطجة ولثقافة السبوبة التي جعلت من المال السريع غاية تبرر أي وسيلة، وحين يستيقظ الأهل فجأة يكون استيقاظهم على كابوس مفزع فطفلهم الذي تركوه بلا متابعة صار شابًا، إما قتيلًا أو محبوسًا أو متهمًا في قضية تهدد مستقبله للأبد وفي أفضل الأحوال عاقًا لا يقدر حتي أمه أو أبوه.

ومنذ سنوات، كتبت في هذا السياق كتبت عن تلك الردة الأخلاقية التي أصابت مجتمعنا كوتبت عن أفلام السبوبة التي صنعت ما يمكن وصفه بأخلاق توك توك -فلا وصف لها عندي كما لا وصف للتكوتوك لدي الدولة- وذلك حيث اختلط العنف بالضحك والبلطجة بالكوميديا والوقاحة بالبطولة، حتى أصبح السلوك المنحرف مألوفًا واللفظ البذيء طبيعيًا والتعدي على الآخرين نوعًا من القوة، وبكل أسي أسف مع الوقت، لم يعد الأمر مجرد انحراف فردي، بل تحول إلى ظاهرة اجتماعية تُنذر بالخطر، مجتمع بأكمله بات في حاجة حقيقية إلى إعادة تربية لا من باب الوصاية بل من باب الإنقاذ وصرخاتي هنا أصرخها لنا جميعًا لعلنا نستطيع أن نُنقذ ما يمكن إنقاذه.

فتدني أخلاقيات الشباب لم يأتِ من فراغ بل كان نتيجة تراكمات طويلة من الفهم الخاطئ لمفاهيم أساسية على رأسها مفهوم الحرية فالحرية لم تُفهم باعتبارها مسؤولية بل باعتبارها فعلًا مطلقًا بلا ضوابط فأتصرف كما أشاء طالما يناسبني دون اعتبار للآخرين وغاب عن أذهان كثيرين أن حريتي تنتهي عند بداية حرية غيري وأن احترام الآخرين هو أساس أي حرية حقيقية.

ومنذ أحداث يناير، وهي ثورة عظيمة لا خلاف على ذلك، شهد المجتمع انفلاتًا أخلاقيًا خطيرًا تسلل حتى إلى الأطفال ألفاظ يعاقب عليها القانون أصبحت على ألسنة الصغار سب وقذف وشتائم تحولت إلى لغة يومية بل صار البعض يعتبرها دلالة صداقة وقوة علاقة اختلطت المفاهيم وتراجع دور القدوة وغابت الحدود وأصبح كل شيء مباحًا باسم الحرية حتى الدين نفسه فُسر بتفسيرات مغلوطة تُبرر الاختلاط غير المنضبط وتُسقط الحياء من الحساب.

لقد فشلنا، نعم فشلنا، عندما تركنا من يُطلق عليهم فنانون يربون أبناءنا بدلًا منا وتركنا شاشات مفتوحة بلا رقابة تصنع وعيًا مزيفًا وتغرس قيمًا لا تمت لبيئتنا ولا لتقاليدنا ولا لديننا بصلة فلم يعد الطفل يتلقى قدوته من أبيه أو معلمه بل من بطل عمل درامي يتفاخر بالبلطجة والتمرد وخرق القانون.

والكارثة الأكبر أن هذه الأعمال تُقدم باعتبارها واقعية وكأن الواقع المصري لا يحمل إلا هذه الصورة القاتمة والحقيقة أن الواقع المصري أعمق وأنقى وأغنى من ذلك بكثير لكنه يُشوَّه عمدًا من خلال أعمال تبرز أسوأ ما في المجتمع وتُعممه وتُقنع الشباب أن هذا هو الطبيعي وأن الحلم هو الثراء السريع ولو على حساب القيم.

ومنذ أكثر من عشر سنوات، حذرت من هذه المهازل الفنية وقلت إن هذا النوع من الأعمال سينتشر كالنار في الهشيم وسيأخذ من أخلاقنا وأخلاق أبنائنا وها نحن اليوم نحصد النتيجة جيل بلا طموح حقيقي بلا حلم مشروع يقلد أبطالًا من ورق ويتمرد على بيئته وأسرته ليشبه نموذجًا دراميًا زائفًا، ورغم كل ذلك، فإن الشعب المصري أثبت مرارًا أنه يقدّر العمل الجيد، ويحترم الفن الراقي، ويلتف حول المحتوى النظيف الذي يمكن للأسرة كلها مشاهدته دون خجل أو خوف، نجاح الأعمال الوطنية والجادة أكبر دليل على أن المشكلة ليست في الجمهور، بل في ما يُقدم له.

ومن هنا، يطرح السؤال نفسه بقوة: أما آن الأوان لإعادة النظر في الإعلام والمحتوى المقدم؟ أما آن الأوان لمنع مشاهد العنف والقتل والبلطجة التي تُقدم بلا ضرورة؟ أما آن الأوان لعودة الإعلام الذي يعكس حقيقة هذا الشعب العظيم بدلًا من تشويهه؟

إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال الدور المحوري للمدرسة، التي تراجعت مكانتها بشكل خطير عودة هيبة المعلم، واحترام دوره، وتعظيم كلمته، ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية، المدرسة يجب أن تعود مصنعًا للقيم قبل أن تكون ناقلًا للمناهج مع تكثيف الندوات والحصص التوعوية التي تُعيد تعريف الحرية وتُحذر من مخاطر السلوك الغوغائي، وتُعلم الشباب أن الأدب ليس ضعفًا، وأن الاحترام قوة.

كما أن الأسرة المصرية مطالبة باستعادة دورها بالمتابعة والاحتواء بزرع القيم بتعليم الدين الصحيح بغرس الوطنية الحقيقية ونبذ ثقافة الانتقام والعنف، وتشديد العقوبة على السب والقذف، خاصة سب الدين والآباء والأمهات، وربط كل ذلك بتعاليم الدين التي تُحرم إيذاء الناس بكل أشكاله، ولا بد من دعم مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الشرطة، ومنحها الغطاء القانوني اللازم لتطبيق القانون بحزم وعدل مع محاسبة المخطئ وتكريم المخلص حتى يشعر الجميع أن القانون فوق الجميع.

أعيدوا إلينا ولاد الأصول، لا كشعار، بل كمشروع وطني، أجيال تعرف معنى الأدب، وتحترم الإنسان، وتفهم الحرية، وتعيش بالقيم، وتُدرك أن الوطن لا يُبنى بالصوت العالي، بل بالأخلاق والعمل والاحترام.