ما أن يهل علينا شهر ديسمبر إلا وتغمرني قصة الروائية العظيمة أثير عبد الله سعودية المنشأ ، عربية الهوي والتي أسمتها " في ديسمبر تنتهي كل الأحلام" ، مبديا اعتراضي علي الحزن الطاغي علي فصول الرواية متفائلا أنه عما قريب سيبدأ من جديد شهر يناير حاملا نسمات ما قبل الربيع ولا أعلم من أين لي بهذا التفاؤل المزعوم الموهوم.؟
وبحكم نشأتي الريفية التي أحبها وأعتز بها وأجاهد أن أكون دائما فيها وبينها كنت أعيش حزن ديسمبر الطبيعي، تجرد الأشجار من أوراقها وقوفها عارية في صقيع البرد ، حبات المطر التي تغرق معظم البيوت ولا ترحم حتي الشيوخ الركع والبهائم الرتع ، ولا الأطفال الرضع، وكأنه جزء من العذاب الأوقع ، فلم يكن الريف بهذا الشكل وكانت البيوت غير كافية لتحمي الأجساد المنهكة من شغل الغيطان ولا الملابس كافية لتحمي العيال الصغار من مرزبات البرد علي الوجنات
وظلت الذكري قائمة موجودة جارية حالية ظاهرة مستقيمة ناهضة واقفة منتصبة، في نن العيون ووتين القلوب ، وشرايين الجسد ، وعظام الأبدان، رغم ما جرى ويجرى من هتك ودك وردم وركل وتمزيق وشق وتغطية ودفن وسد تراث الريف المصري فمن يستطيع أن ينسي نفسه؟ .
وكنا صغارا نحلم بشبه الدفا الكائن الوحيد في شمس النهار ، وبعض من نار التدفئة جوه حنان البيوت ، ونلهو في الغيطان منتظرين وداع شهري كياك وطوبة القاتلين لدفء الجسد، العاجزين عن اقتحام دفئ القلوب، فغدا تثمر الاشجار وتزدهر الأوراق وتنموا المحاصيل مبشرين بقدوم الربيع غدا تزهر الورود غدا تنمو الأشجار الضعيفة ويقوي عودها.
أخذتنا نداهة الحياة من القاهرة وعودتنا إلي طنطا العمر جري والشعر شاب ومش مكتفي بالشيب بل غادر مقدمة الرأس ومؤخرتها كمان مودعا زمن الشباب قائلا أهلا بالشيب والمشيب واستعد يا فتي للرحيل ،
في ديسمبر جلست وكلى آذان صاغية للنقاش الثرى الدائر بين عقلي وقلبي حاضري وماضيي يومي وأمسي وهو نقاش وصراع متداول بين أجيال عقلي وأنا منغمس في الصحافة وهي مهنتي وأكل عيشي ، تطاردني طفولتي الريفية ورائحة عرق جبين أبي ، ودفا مدفأته، تاريخ طويل مع المجربين المتمهلين المتسامحين المنهكين الحالمين ، الصراع بين نفسي وانا ، كله بأصوات خافتة تنبض بالكاد مع ذبذبات ميكروفون داخل اذني ،
يصمت النقاش والصراع لالتقاط الأنفاس المتخاذلة التي ما عادت تسعفني في صعود السلم والمشي طويلا بل تخذلني وأنا نائم معترضة حتي نومي هادئا رافضة ان أكون طبيعي لتوقظني فاطم ابنتي بابا انت كويس؟ ، ولا أدري ما شعرت به البنية غير أنها رأتني عاجز عن التنفس
في التو تم اختراق مسار أفكاري من تدخل خارجى عشوائى حاولت استعادة جمع شتات نقاطي المرتبة على سطور مفكرتي العقلية، محاولا طرح حلول جذرية عجز ديسمبر عن تحقيقها أو الوصول إليها،
فيجيبني صوتي المنفعل الرافض المتعجل الطارح للقضايا وأسبابها وكيفية علاجها بصخب الطلقات المدوية، وصوت حفيف الاشجار المنعش نهارا المخيف ليلا مع رزاز المطر الساكن فوق زجاج سيارتي وانا استمع للفنان علي الحجار في أغنيته الساحرة هنا القاهرة
هنا القاهرة الساحرة الآسرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة
هنا القاهرة الزاهرة العاطرة ، الشاعرة النيرة الخيرة الطاهرة
علام إذا التعجب ونحن ندور في دوايرها وهي بهذا التناقض الغريب ، كل شئ وعكسه ، ونفسه وذاته وصورته ورؤيته ومذهبه الشافعي الرافض لبعض ما أقرته الحنفية ، مصطفا كتفا بكتف مع الحنابلة ، وللمالكية رأي آخر ، أليست هذه المذاهب الأربع لأهل مصر ، اتفقوا علي الأصول واختلفوا في الفروع، أليست مذاهبنا أربع ، والاصل واحد؟ فلم تم تربيع ما انفرد لا أعلم أيضا.
في ديسمبر اخذتني النداهة لشارع الأشراف بصحبة رفيقي الدكتور عبد الحميد الشرشابي مررنا بميدان الخليفة ولي معه ذكري، واستوقفنا مسجد السلطان حسن واقتحمنا مقام السيدة نفيسة العلوم ، ثم مقام السيدة سكينة الكبرى ، ومقام السيدة رقية بنت علي الرضا، ومقام السيدة عاتكة،
ولم أجد علي مقامها لوحة رخامية أخذني التطفل الصحفي لأسألها هي الواقفة القارئة للفاتحة الواضعة جبينها علي مقام من الطوب الأحمر القديم لم يبليه الزمان ولم يغير معالمه لماذا هو بالذات ؟ وكأن الزمن قد عاد بنا للعصر الفاطمي
سالتها مقام من هذا؟ فلم تنظر ولكن نطق لسانها وأظنها ناطقة من قلبها مقام ستنا عاتكة ،
فانصرفت أنا
فلاحقتني هي
انتظر أعطتني قطعة من الحلوي فأعطيتها لمرافقي بفرحة أتيت لك بحلوي، فأخرجت ثلاث قطع أخريات رفضت أنا وقلت واحدة تكفي، فقبضت علي يدي قائلة لا ترد رزقك هو لك ، وانصرفت ، تاركة لي رعشة في جسدي وتنميل في عقلي وهزيمة في جسدي ولم تقوي قدماي علي حملي .
يا لهول ما رأيت وما قابلت وما لمست ، زاحمت واشتبكت وانكفأت أحاول لملمة ثيابى ناظرا على موطئ قدمي المغموسة فى أرضية المقامات ، ولم أري إلا متلازمات القائل "يلازم المؤمن بقدر ما فى قلبه من إيمان"،
انتفي الإعراض وانفجر القبول، وكأن نيل مصر قد زاد وفاض في جسدي، وعندي رغبة عارمة أن أنام هنا علي جنبات هذا الرخام، لولا خشيتي أن أتهم بالمستجيب للنداهة وأنا فعلا مستجيب لها بكلي وجزئي ،
أنا المولود في ديسمبر الحزين من غير ذلة العزيز من غير قسوة، رايت بأم عيني ويا لهول ما رايت أبهة فاقت الفائقة إطارات ذهبية عليها آشعة الشمس منعكسة ونحن بالليل الشتوي ، وأنفي مليئة برائحة الخشب المغموس بالمسك ، والمسك بعض دم الغزال، وهذا المسك فاين الغزال؟ ، إن كان دمه قد حضر فاين ذهب لحم الشواء
تعود بي الذكريات مرة أخري لحضن ابي المحب للقرآن والمحب لرسول الله وآل بيت رسول الله وأنا أردد .. علي الرضا ، الحسن الأنور، فاطمة النبوية ، سكينة الكبري ، كافور الأخشيدي، علي الجعفري ، ابن طولون، فاطمة خاتون ، وآخر كتاب اشتريته من مكتبة بجوار منزل أختها زينب خاتون الكائن خلف الجامع الأزهر ، عربة الفول الابهة التي كانت تلمنا ونحن طلاب في جامعة الأزهر حائرين تائهين فإلي متي نظل حائرين؟ وحتي متي يا ديسمبر ستظل أنت الحزين؟