في شهر ديسمبر تعودت أن أكتب مقالا سنويا أتحدث فيه عن يوم ولدت فيه ولا أدري قدر الله وحكمته أن أولد في نهاية شهر وفي نهاية عام، ودائما ما يأتي مع شهر كياك
وكياك قالوا عنه صبحك مساك ، واصحي من نومك جهز عشاك تعبيرا لقصر نهاره ، وطول ليله ، وهو ما يعني قصر العمر ذاته ، وإن طال من حيث العدد فما أشبه ليله بليل صول، فيه تناهي العرض والطول، كأن ليله بالحشر موصول
ورغم ما نعانيه من طول ليل كياك وبرودته وثلجه إلا أن هناك بادرة ضوء و أمل، لأنه الشهر المريمي وما أدراك ما الشهر المريمي ولمريم عشق خاص، ويا مريم اقنطي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فكلنا عاشقون لمريم وسورة مريم وابن مريم وكفيل مريم وآل مريم ،
وليست كل أزمان الطفولة تسكنها السعادة والذكريات المرحة ليُعبِّر الدكتور يوسف إدريس عنها بالقلم المكلوم: "كنت أخرج عادة قبل شروق الشمس، قبل استيقاظ الفلاحين المبكر أنفسهم وأخرج من الدار الكبيرة المبنية بجواليص الطين وأسقفها المصنوعة من أنصاف جذوع النخيل ومعرشة بخوصها وجريدها، أخرج لأجد الضفادع والصراصير تعزف أصواتها القبيحة الملحة المنكرة علي ضفاف البِركة التى كانت شيئا غامضا غريبًا فأمرق هاربا إلى الطريق الزراعى.."
ويبدوا أن ابناء الريف المصري كلهم كانوا هذا الرجل السائر علي قدمين في أرض الخوف حيث كنت أسير من قرية إخناواي إلي قرية إشناواي المجاورة حيث كتاب الشيخ محمد كمال وأنا ابن الرابعة من عمري، حرص أبي رحمة الله عليه أن أكون من حفظة كتاب الله ، فكان يأخذني علي حمار لو سمح وقته، وحمار أبي ليس كأي حمار ولو انشغل أبي علي أن أسير علي طبان الطريق، والطريق كله طبان ترابي ولا يمر عليه سوي أتوبيس المرفق ، ولا أعلم لماذا نخاف من السير علي ظهر الطريق وهو لا يمر عليه سوي الحمير وعربات الكارو، وصفوف المواشي في خطوط منتظمة ذاهبة إلي الحقل أو عائدة إلي القرية ، في مواعيد ثابتة كمواعيد القطار لا يخلفها أحد ،
ثلاث سنوات بين الأتوبيس والحمار وقدمي حتي التحقت بمعهد الشيخ محمود الأزهري ليرحمني الله من السير إلي قرية إشناواي إلي الجري علي المصرف الزراعي حتي جنينة العمدة في السادسة صباحا.
أبويا الشيخ محمود الحارون رحمه الله كان يبدأ الحصة الأولي في السادسة صباحا، لا أعلم لماذا؟ فعلينا كتلاميذ أن نذهب إلي بيته 6 الصبح، أثناء عودته ونصطحبه كالأغنام تحت قدميه نسمع اللوح بالدور حتي نصل إلي المعهد وبعده ننطلق في سباقات جري بأمر أبويا الشيخ إلي جنينة العمدة الحج محمد الخولي ذهابا وإيابا لنصل المعهد السابعة قبل بدأ الطابور وبالتالي انتهي الشيخ من تسميع اللوح والماضي القريب، والحصة الأولي للتصحيح والثانية الماضي البعيد والثالثة مراجعة والرابعة معلومات عامة أبويا الشيخ كان بيعرف في السيرة والمسيرة والعلوم والتاريخ والجغرافيا أبويا الشيخ كان مدرسة وجامعة، بين جلبابه وعباءته وطاقيته مكتبة علوم كاملة متكاملة ، ولا تتعجب إن قلت لك أن عدد حصص القرآن كانت بين ثلاث وأربع حصص يوميا غير حصة الصباح قبل الطابور.
وانتهت مرحلة الابتدائية لأذهب إلي معهد إشناواي الإعدادي مرة ثانية سيرا علي الأقدام ، وأنا الخبير في هذا البلد ولي فيه أصدقاء كرام ، ولأبي أحباب في القرية كلهم يعرفوني لأقوم بدور السفير السامي الديمقراطي بين طلاب إخناواي والقري المجاورة ، وكنت أتحسر علي مسافة قصيرة نسيرها عبر الطريق " "الزراعية "، أو سكة سيدي سلطان " وذهبت حسرتي حينما رأيت أبناء القري المجاورة والعزب يسيرون ثلاث أضعاف المسيرة، ولا يوجد مواصلات لقراهم غير السير علي الأقدام بحب وكأن العلم كان درب من الشقاء والعناء والبذل .
ثلاث سنوات مرت بخيرها وخيرها فلم نرى في التعليم الأزهري شرا إطلاقا ،وأنا المحظوظ بأصدقائي في القرية ،من ناحية ومن أخري أن عمي وابي الثاني الشيخ سرور عز أو قل إن شئت الشيخ إبراهيم أبو العيلة هو وكيل المعهد وأنا أحب ابناء أخوته وعمومته إليه وكنت مرافقا له في الحقل وفي المعهد وفي السهرات الليلية التي لم تنقطع يوما بينه وبين أبي
وننوي أنا وصديقي محمد الدكروري علي الالتحاق بالمعهد الأحمدي ، ونعلم علم اليقين أن الأحمدي له تبعات أولها أن نسير من إخناواي إلي طنطا يوميا توفيرا لثمن المواصلات الثلاثون قرشا ذهابا وإيابا ، والعقبة الكبري أن الأحمدي يستوجب ويحتم ويشترط أن نرتدي العمامة الأزهرية وهذا شرف ما بعده شرف، وأكون أنا المحظوظ أيضا بعمامتين وليس عمامة واحده وعمائم من هي؟ الأولي عمامة عمي أبو العيلة والثانية عمي الشيخ بسيوني عز اللذان ما برحا أن يعلنا عن فرحتهما ويعطوني عماماتهما رغم ما لهما من ذكريات ، ويا لفرحة أبي ، وكانت المشكلة هي كيف نلف العمامة كل مرة ، ليشير علي السيد الدكروري صديق العمر بالذهاب لأبويا الشيخ التهامي عوض هذا الرحيم الوقور القرآني الهادئ الطباع غير المنفعل إلا لو فشلت في تسميع اللوح ، والد الدكتور بيومي عوض والدكتور إسماعيل عوض ، ليجلس إلينا جلسة الوقار الهادئة في دهليز بيتهم ، ويطلب لنا من سيدة الدار كوبين من الشاي ، وكان أول شيخ من كبار الشيوخ يطلب لنا " كوباية شاي " ليعلن التاريخ أننا أصبحنا رجالا نستحق أن يطلب لنا الشيخ تهامي واحد شاي ويشرح لنا كيفية لف العمامة لنصير خبراء فيها .
سنة دراسية كاملة نقضيها سيرا علي الأقدام لسنا وحدنا بل كل طلاب العلم من القرية في مدارس طنطا شباب أو بنات يعرفون طريقهم في الصباح إلي المدارس علي" الزراعية "، وفي السنة الثانية كنا من المكرمين ليوافق أبي علي ركوب الدراجة أنا والسيد الدكروي والسيد مهدي عز ابن عمي الوقور الهادئ لأركب "العجلة" بفتح العين والجيم هكذا كنا نسميها، اللاري الحمرا ، ويركب الدكروري العجلة الصيني انتاج السنة ، ويركب مهدي عجلة فيلبس دوبل جادون ، ويا لفرحة أبناء الطيبين بركوب "العجلة "وتقريبا كل أبناء الجيل كانوا هذا الرجل
وتنتهي رحلة الأربع سنوات دراسية في المعهد الأحمدي هذا التاريخ الطويل من العلم والإيمان ، ليأتي يوم الأصالة والانتماء وامتداد الجذور والفروع وحصاد الطرح بدرى ، وتقع علي كاهلك مسئولية العائلة وفحوى لقبها وفصيلة دمها ، وإنت ابن مين فى البلد؟! وأبًا عن جد، والعرق يمد لسابع جد.. وأبويا وكيلى وقال لي " اللي مرحش مصر متعلمش " علي الذهاب للأزهر في مصر ومصر تعني القاهرة الساحرة العامرة ونحن الفتي القروي الساذج ونخاف أن تبهرنا أضواء المدينة، ولكنها لم تبهرنا بل خطفتنا عنوة وقوة
واسم النبى حارسه راح مصر الأزهر بأمر ابويا أبويا كان جبل من الحنان وصخرة من الأمان وسند من الزمان، لأمد رجلي من موقف القرية إلي قطار القاهرة ، وهو موضع لم نطأه إلا مرتين أو ثلاث، واللي يروح مصر يعمل له ألف حساب.
رضخت لأمر أبي ممتثلا قول الله "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء اللـه من الصابرين" وكان بودي أن أنادي كل الأحبة بنداء اركبوا فيها باسم اللـه مجريها ومرساها وكأن جامعة الأزهر في القاهرة هي الخلاص وما سواها هو الهلاك هكذا قال أبي وجدي
واستجاب الله لدعاء ابي ولهفة أمي ولم تبهرني أضواء المدينة ولكن سحرتني الدراسة والجمالية ، وقباب الحسين ومآذن السيدة وجامع عمرو وأعمدة الأزهر ، أصوات مليئة بالأسرار ، وعالم من البشر يسارعون الدنيا وهي تسرعهم ، آلاف من التفاصيل في وشوش الناس ، وفي مقاهي وسط البلد والتوفيقية والعتبة والموسكي والسبع بنات وروايح العطارة في حواري سيدنا،
مذاهب الطلاب إلي مدينة نصر والاستاد والحديقة الدولية، وقبلتي كانت في كلوت بك والفجالة والجمالية وشارع المعز وخان الخليلي وبيت السحيمي وزينب خاتون، وقصر الشوق ، ومنزل أم الغلام ودرب اللبانة، و باب زويلة، وباب الشعرية ومسجد الحاكم بأمر الله، وباب النصر وباب الفتوح وسور مجري العيون وبين السورين ،والحسينية وبرجوان والصاغة، والغورية والفحامين والوايلي والزواية والقبة وتوابعها من الحدائق والحمامات والكوبري
أري الكلام في عيونك عزيزي القارئ أني أطلت ووجعت قلبك وعينك، سامحني يا أخي واستحملني شوية، هو حنين إلي ماضي ونحن البلد الوحيد اللي ماضيه أحسن من حاضره مجتش علي العبد لله يجول بخاطره شوية في ماضي جميل أحبه ويحبني ويذكرني بأبي الذي تعودت أن أكتب فيه مقالا يوم مولدي
ومن حسن الطالع أن يوافق يوم مولدي هذا العام بتكريم عزيز فريد أفتخر به وأنتشي ان أكون من المكرمين من اتحاد كتاب مصر في مؤتمره السنوي بعنوان " دراميات الإبداع ومسرحة الوجود تحولات الدراما والأنواع الادبية في وسط الدلتا"
بل أفاض الله علي عبده أن يكون ضمن فعاليات الجلسة العلمية ، بمقالي " وانا العليل " برئاسة الدكتور أحمد محمود الجبالي ضمن كبار الكتاب في مصر وهذا شرف لو تعلمون عظيم ،
ولو كانت هناك أمنية وحيدة لي هي أن يكون أبي بجانبي هذا اليوم وأهديه كل تكريم حصلت عليه وكل إنجاز أنجزته وكل قول صدق قلته وكل صداقة اكتسبتها فأنا ومالي له، رحم الله أبي وتقبله في الصالحين ،وسأظل أذكره ما حييت فهو الملهم الأول والسبب في في كوني كاتبا أحسب أني " من المميزين" لتفتح الكتابة الأبواب أمامي وأكون في يوم مولدي مع كبار القوم فى الأدب أو الفنون والسياسة
ويبقي لي معه سر وأمل منسي في الركن القصي مع شتاء ديسمبر وليالي كياك