حث القرآن الكريم على التذكير بأيام الله فقال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم: 5] والتذكير بأيام البلاء يكون بالصبر على ما وقع فيها، وأخذ العبر حتى لا يقع المؤمن في حفرة مرتين، والتذكير بأيام الخير يكون بالاهتمام بها والاحتفال بها، وشكر الله تعالى عليها؛ ولهذا ختمت الآيات بذكر حال الصبَّار على البلاء, والشكور على النعماء؛ ولهذا صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء؛ شكراً لله على نجاة أخيه موسى عليه السلام في هذا اليوم، كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين شكراً لله على هذ اليوم الذي ولد فيه.
وميلاد عيسى عليه السلام يوم عظيم ويوم معجزة, حيث خلقه الله تعالى من أم بلا أب؛ حتى تعجب الناس من ميلاده، فذَكَّرَهم الله تعالى بالمعجزة الأكبر, وهي خلق أبيهم آدم عليه السلام الذي خلقه الله تعالى بلا أب ولا أم, فقال تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران: 59]، والكل في قدرة الله سهل ويسير، وقد قال عيسى عليه السلام نفسُه عن يوم ميلاده: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}[مريم: 16-33]، وقال يحيى عليه السلام عن يوم ميلاده: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}[مريم: 15].
وإذا اهتم القرآن الكريم بمائدة عيسى عليه السلام، واتخاذ يوم نزولها عيداً، حيث دعا ربه وقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[المائدة: 114]، ولا يقال هذا شرع من قبلنا؛ لأنه قد وردت قصة المائدة في سياق الإقرار لها، مع الاحتفاء بها، حيث سُميت سورة قرآنية باسمها سورة المائدة، وأين معجزة المائدة من معجزة ميلاد عيسى عليه السلام؟! فكان الاحتفال بميلاده أولى واجدر.
والناس مع ميلاده طرفان ووسط: طرف يحتفل بميلاده بشرب المسكرات وفعل المنكرات وانتهاك المحرمات، وطرف تجاهلوا ميلاده وتناسوه, ووسط الناس الذين يتذكرون قصته ويدرسونها ويتعلمون منها, ومن هذا الباب قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ليس بيني وبينه نبي".
أما من يستشهد بفتاوى الإمام ابن تيمية التي تفسق وتكفر من يهنأ النصارى بميلاد عيسى عليه السلام، فالاستشهاد بها غير صحيح؛ لأنها فتاوى منزوعة من سياقها التاريخي، حيث كانت الحروب مع التتار على أشدها, فكان التحقيق في المنع ليس بسبب اختلاف الدين, وإنما بسبب المحاربة مع غير المسلمين، لأنه لا يعقل اليوم تهنئة الدواعش والإرهابيين الذين يسفكون الدماء بعيدي الفطر والأضحى, وهم مسلمون ينطقون بالشهادتين.
ولا يلزم من تهنئة النصارى بميلاد عيسى عليه السلام, إقرار بعقيدة تخالف دين الإسلام؛ لأن القرآن الكريم أباح الزواج من الكتابية يهودية كانت أو نصرانية، وليس في هذا إقرار بدين الزوجة, ومن تسامح النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الأديان أذن لبعض وفود النصارى بالصلاة في المسجد النبوي، وليس في هذا إقرار بدينهم، وعلى العكس إذا هنأ اليهود والنصارى المسلمين بأعيادهم الدينية كالفطر والأضحى، فهل هذا إقرار منهم بدين الإسلام؟!